عزيزي توم سأتغاضى عن حقيقة كوّنك شخصية خياليةوتعتبرني لدقائق قليلة طفلًا صغيرًا

ينتظر إحدي حلقات كرتون «توم وجيري»، لتفاجئنا بما لا نتوقع من المغامرات، عاودني تذكرة أيام طفولتي لأفهم مامررت به صغيرا فدائمًا نحتاج أن نروي الحقيقة كما تشعر بها، وإن كنت أدرك عبثية المحاولة في التوفيق بين حقيقة كلامي ورمزيته، ولكن يكفيني شرف المحاولة، فقررت الكتابة إليك.

يتبادر إلي ذهني الانطباع الذي تعايشنا معه طوال فترة طفولتنا، حين كنا نحاول أن نجد عالمنا الخاص، مثل اعتقادنا بأن الفأر جيري مثال للخير، بينما أنت، توم، مثال الشر، اقتنعنا بذلك على الرغم من تربيتنا المبنية على الخوف من غرفة «الفئران» التي ستُحبس بها لينهشوا لحمك، كيف اقتنعنا بالروايتين المتناقضتين، استطاع السيناريست توصيل صورة ذهنية مخالفة للواقع، بل وإقناعنا بها، والتعاطف أيضًا مع انتصارات الفأر في سرقة أكل البيت وتحطيم أثاث المنزل والنظر لتوم بأنه ظالم، بالرغم من أن كل ذنبه هو حماية البيت من المتطفلين، وتمجيد ذكاء جيري في التحايل والاختباء في المنزل وسرقة الأطعمة في مقابل كره عارم وفرحة في هزيمة توم أمامه.

دعنا نتفق أن الحياة مليئة بالصعوبات التي تدفعهم للمنافسة، ليس على الإنسان وحده، الذي يتربع على قمة هرم الكائنات الحية، ولكن على كل الكائنات الحية الأخرى لدرجة أن طائر الوقواق يضع بيضه في عش طيور أخرى لتكون حاضنة للبيض حتى يفقس بيض الوقواق الذي يفقس دائمًا قبل بيض الطائر الأصلي، ويقوم طائر الوقواق الصغير، بالرغم من أنه لا يزال صغيرًا بإلقاء بيض الطائر الأصلي من العش، وكل ذلك من أجل أن ينفرد بالطعام الذي توفره له الأم، هذا ما يفعله الطيور مع بعضها من أجل المنافسة، هذا يشبه الإنسان المتسلق الذي يكيد المكائد لمنافسه الأفضل والأحق منه حتى يتخلص منه، وهذا يشبه ما تتعرض له يا توم يومًا ما، يا عزيزي ستهزم جيري وتنظف المنزل وسينصفك الناس.

كثيرًا منا يترك نفسه لتربية المجتمع التي تشبه تربية المهرج للفيل، كما يروي باولو كويلو أنه ذهب إلى السيرك وتعجب من أن فيلًا ضخمًا كان مربوطًا إلى ركيزة صغيرة من ركائز خيمة السيرك طيلة العرض، ولم يحاول ولو مرة التخلص من قيده، بعض من خطواته كافية لجر وراءه كل الخيمة يكمل الكاتب بأنه بعد نهاية العرض ذهب إلى صاحبه، وسأل عن إن كان ليس بأمر خطير على الجمهور ربط الفيل الضخم بحبل صغير إلى ركيزة لا تبدو قادرة على شدّه إن تمرد فأجابه المهرج: عندما يولد الفيل نقوم بربطه مباشرة بحبل متين إلى ركيزة كبيرة، يحاول ويحاول التخلص منها دون فائدة، نستمر هكذا لسنوات؛ تتناقص محاولاته في التخلص من رباطه، مع الوقت يتعلم أنه عندما نربطه لا داعي لمحاولاته. ويكفّ عن أي تمرد بمجرد لف حبل صغير حول رجله.

الشاعر ويتن هيو أودين، في واحدة من أعظم أعماله الشعرية «المواطن المجهول»، يتحدث عن الإنسان الذي جرت تربيته بواسطة المجتمع، أقامت الدولة نصبًا رخاميًا له كتبت علي قبره ملفه الذي يحوي معلومات عنه، فهو شخص مسالم لم يتقدم أحد بشكوى ضده، قام بكل أعماله بشكل مرضي، كان محبًا للشراب ولديه بعض الأصدقاء، ذهب مرة واحدة للمستشفي، لديه تأمين صحي، كان يقرأ الجريدة ويتابع الإعلانات، لم يكن مسرفًا، كان مؤيدًا للدولة وقت السلم والحرب، متزوج ولديه العدد المضبوط من الأولاد، كان المواطن المثالي بحق ليس ذلك الذي يغير العالم، ولكنه ذلك المجهول المغمور، مجرد ترس في آلة عملاقة يؤدي عمله بشكل مقبول.

دعني أبسط الفكرة قليلًا بمثال آخر. ألم تسأل نفسك يومًا لماذا ساعة ثمنها 10 آلاف جنيه، أو سيارة ثمنها مليون جنيه، تُوضع إعلاناتها في جرائد وصحف لا يزيد ثمنها عن جنيه واحد فقط؟ جرائد معظم من يشترونها هم من العامة الذين لا يملكون إلا قوت يومهم، هم يريدون من العامة معرفة الساعة الغالية واسم ماركتها ومميزاتها، نعم إنهم لن يشتروها ولكن سمعتها التسويقية المبهرة التي تجعل أي شخص غني لديه شهوة الظهور، وأن يكون محط أنظار الجميع، يشتري تلك الساعة، على الرغم من أن أي ساعة أخرى رخيصة الثمن ستخبره بنفس التوقيت، ولكن تلك الساعة لغرض كلام الناس الذين تحركهم شهواتهم، ويتحكم فيهم النخاع الشوكي، عملية معقدة يتم فيها تخدير العقل وتنمية الشهوات المحفزة لتنشيط النخاع الشوكي، وإن كانت بذرة الشهوة غير ناضجة يتم إنضاجها، يلغون فيها قيمة العقل أولًا قبل أي شيء آخر، يجعلون الناس تتحرك بعضلاتها عن طريق عواطفها، وليس عن طريق الفهم والإدراك، وهي من وظائف العقل الذي كرم الله به الإنسان، ويصبح المسيطر والمتحكم والفعال هو «النخاع الشوكي» يتحكم في العديد من وظائف الجسم، مثل حركات الأمعاء وحركات العضلات، قائم بذاته، وليس قائمًا بما يصدره العقل من إشارات، كالحيوانات تمامًا المحرك لها هو النخاع الشوكي، فالله لم يخلق لها عقلًا من الأساس.

سأتركك الآن وها أنا حاولت أن أحكي جزءًا من الحقيقة الدفينة في أعماق عقولنا، وسأستكملها في المرات القادمة، آمُل ألا أكون تأخرت كثيرًا في الكتابة، وأن تصل إليك رسالتي في الموعد.

الكَنز

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات الكَنز

تدوينات ذات صلة