هل تساءلتم يومًا كيف يمكن للحظات الفراغ التي نمر بها يوميًا أن تكون نقطة انطلاق لإنجاز عظيم يغيّر مجرى حياتنا أو حتى التاريخ؟


أطالع هذه الأيام كتاب أنا للعقاد، واستوقفتني نقطة تحدث عنها بإسهاب، ألا وهي الفراغ وساعاته وكيف يقضيه.


وقد قال الرسول ﷺ: “نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ.”


كلام ليس بالجديد ومفروغٌ منه، لكن ما استوقفني في الموضوع فكرة أن جميع الأعمال التي ازدهرت بها الإنسانية بدأت بشخص انشغل بهواية في وقت فراغه، فتبينت حاجة البشر إليها، وأصبحت وظيفة مهمة بعد ذلك.


❞ من كان يعرف هذه الأعمال التي يعيش عليها الملايين لولا ذلك الفراغ الذي تقدم به الزمن في تواريخ الأمم! ❝


الفراغ كان وما زال سلاحًا ذا حدين، ونتيجته تعتمد على كيفية استغلاله.

هو ليس وقتًا زائدًا، فائضًا عن الحاجة، بل يمكن أن يكون نقطة انطلاق لإنجازات عظيمة إذا استُخدم بوعي.


ولعل التاريخ مليء بأمثلة لأشخاص لم يكتفوا بمجال عملهم الرسمي، بل استغلوا وقت فراغهم ليخوضوا مغامرات فكرية فتحت لهم آفاقًا جديدة.


وهناك شخصيات كانت تعمل في تخصص معين، لكنها قضت وقتها المتبقي في تخصص آخر جذب اهتمامها، ليكون ذلك بداية عظيمة غيّرت مجرى التاريخ.


فها هو جابر بن حيان، الذي عمل في الصيدلة والطب، لكنه استغل فراغه في دراسة الكيمياء والتجارب العلمية، مما جعله رائدًا في هذا المجال. فالعديد من الاكتشافات الكيميائية التي نعتمد عليها اليوم بدأت بأبحاثه، التي كانت مجرد هواية في البداية.


وابن الهيثم، الذي لم يعمل في مجال الفيزياء رسميًا، لكنه استغل فراغه في البحث والتجارب العلمية، مما قاده إلى اكتشافات غيّرت فهم العالم للضوء والرؤية، ومهدت الطريق لصناعة الكاميرا في المستقبل.


ولا نبتعد كثيرًا عن نجيب محفوظ، الذي بدأ الكتابة وهو موظف في دائرة حكومية، حيث كان يخصص وقت فراغه صباحًا للكتابة، قبل أن يتحول إلى واحد من أعظم الروائيين في التاريخ العربي.


لن أخبركم عن خطر الفراغ إذا لم يُستغل جيدًا، فأنا أعلم أن الجميع يعرف المشاكل الناتجة عن ذلك. لكن ما يثير استغرابي هو من يأتي ليقول: “أريد أن أقرأ، لكن لا يوجد لدي وقت لذلك.” فأعلم في قرارة نفسي أنه لا يريد القراءة حقًا، وإلا لاستخدم وقت فراغه لهذه الغاية بدلًا من تضييعه على مواقع التواصل الاجتماعي. فالوقت موجود لمن يريده فعلًا.


الإنسان يحتاج إلى وقت خاص به، يقضيه في شيء يخصه، ليُرفه عن نفسه من مشاغل الحياة وتعب ملاحقتها. ولا يشترط أن يكون ذلك في القراءة، بل في أي شيء يشعره بالسكينة ويهدّئ من ضجيج عقله بعد يوم مزدحم بالمهام المرهقة. لا تنقطع عن العالم، لكن لا تكثر من متابعة وسائل التواصل.


أذكر صديقة قالت لي إنها لا تعرف هوايتها وشغفها، فاقترحت عليها أن تجرب أشياء كثيرة لتستكشف أيها هو الشغف المنتظر. ولا أعلم هل وجدته أم ما زالت تبحث، ويغيب عني السؤال وعنا الحديث في الموضوع.


ربما لم تجد شغفها بعد، لكني على يقين أن رحلة البحث عن الشغف لا تقل قيمة عن إيجاده. فالشغف ليس دائمًا هدفًا محددًا نصل إليه، بل قد يكون طريقًا ممتعًا مليئًا بالاكتشافات الصغيرة التي تكشف لنا أنفسنا بشكل أعمق.


أعتقد أننا جميعًا نعرف شخصًا ما، أو ربما نحن أنفسنا، لم نجد بعد ذلك الشيء الذي يشعل فينا الحماس. لكن ربما، بدلًا من القلق حول ما هو الشغف؟، يجب أن نركز على التجربة والاكتشاف، لأن الطريق نفسه قد يكون أكثر قيمة من الوجهة.


جربوا أن تمنحوا أنفسكم 30 دقيقة يوميًا لشيء يثير فضولكم، فقد تكون هذه الدقائق بوابة لحياة أكثر غنى، وربما بداية لمشروع يغيّر مستقبلكم.


إن استثمار لحظات الفراغ ليس مجرد قرار يومي، بل هو بناء متدرج قد يقودك لاكتشاف ذاتك بطريقة لم تتخيلها من قبل.


سكنات فكر

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات سكنات فكر

تدوينات ذات صلة