رحلة إلي الماضي ، والفاعل فنجال وحيد من القهوة المصنوعة بيد صانع شاب محترف

وتتجاوز الساعة العاشرة مسائاً ، ويهِمُ صاحب المقهى بالإغلاق ، وبحُكم العلاقةِ الوَطِيدة بيننا ، ابى ان يغلق قبل ان أحتسي كوبَ قَهْوَتي المُفَضّل ، فشَكرتُه وجلستُ لأنتظِرَ الفِنجانَ السِحْريّ القادِرَ علي تَغذيَة عَقْلي بالأفْكَارِ ، وتقويةَ ذِهْني اللّذي يُعالِجُ كُل هذا الكَمِ الهائلِ من المَعلوماتِ .


وفي وسط الأجواء الليلية الخالية من الناس ، أتأمل المكان حولي اذ به خالٍ من السكان ، فتحيا ف ذاكرتي القصصُ القديمة ، ومقتطفاتٍ من الروايات اللتي قرئتها علي مدار سنواتي ، فأتذكر تلكَ المواقفَ الجميلةَ اللتي فارقني أصحابها ، وبالتوازي معها اتذكر مقتطفة تتناسب مع الموقف ، واقول في نفسي :

-يا ربااااااه ؛ كم انا قويٌ لأتجاوز كل ذلك بجسدٍ لم يفتُرْ ، وعقلٍ لم يخملْ ؟!


وإذ بصوت اقدام "سعيد " صاحب المقهى يقترب مني ، فيُقدم لي قهوتي ، وفي عينيه من الأسى علي حالي ما لا طائل له ، فأشكره علي حسن تفهمه لعلاقتي بهذا الفنجال البني ، لطالما حادثت هذا الفنجال سراً ، عن حالي ، وعمّا يجري حولي ، وما يكون منه إلا ان يهُمَّ بإحتوائي .


اعلم ان هذا ليس بالشيء العقلاني علي الإطلاق - لكنها الحقيقه - ، فعندما يمرُّ أحدنا بهذا القَدْرِ من الكبت ، الإحباط وسوء المعاملة ، يفقد الثقة في الجنس البشري علي وجهِ الشمول ، فما بالُكَ بشخصٍ ذاقَ عُسْرَاتِ الوقتِ مُنذُ نعومة الأظافر ، هل تُراهُ يستثمر وقتاً في رفع ثقتة عن الناس ، وهذا ليس نوعً من انواع التكبر او الغرور ، لكنَّ التجربة كانت لي خيرَ دليلٍ ، حيث اني كنت صامتاً لا أتحدثُ ولا أحبُ ان أكون محطّ اهتمامِ أحدِهم ، إلي ان تحدثت ، فَلم يبادرني احدُهم بالتفهمِ ، بل وانقلبت مواقِفُهم ضِدّي .


وتستمِرُ جَلستي وتَحديقي في كوبِ القهوةِ ، لفترةٍ من الوقتِ ، مع صوتِ الشيخِ "فارِس عبَّاد " وهو يَتلو من القرآن ما تَيسّر ، و "سعيد" يجوب المكان في هدوءٍ تامٍ ، يلملمُ شتاتَ المكانِ بعدَ زحامٍ مِنَ الناسِ ، ولا أكادُ أشعرُ بوجودهِ ، موفراٍ بذلك قدرا ًعظـيماً من الهدوءِ في المكانِ ، وانا مستمرٌ في إستماعي الي الشيخ و يستَوقِفُني قَولُهُ -تعالي -《لِكَيْ لآ تَئْسَوْ عَلْىْ مَآ فَآتَكُمْ 》، فأجدُ افكاري لا إرادياً في تزايدٍ ، وأتذكرُ كُلّ ما سَبقَ.


تذكرتُ تِلكَ الفتاةِ اللّتي كانت تَغْزُو عَقْليْ ، لَقد كانت حُب حياتي الأول ، وأستَمَرت القصة فترة كبيرة ، وإذ بالفُراقِ اللّذي اعرف انه سُنةٌ كونيةٌ لا عاصِمَ منها قد أصابنا ، فأنطفءَ في قلبي الشغفُ للعلاقاتِ ، وانحَدَرت حياتي إلى حافةِ الهاويةِ يَلحَقُ بِها عَقْلي وأفْكاريْ ، لقد كانت جميلةً لدرجة أنّ جمالها اعطاها في قلبيَ الحَصانة ضِد النسيانِ ، أعتَرِفُ أنّي قابلتُ الكثيرينَ بَعدها ، لم أفشل في جعلِ نفسي محورَ حياتِهم وإهتماماتهم ، احببتُ بعضهنَ وأحبَني البعضُ ، وكلّهم سألوني إن كنت سأنساهم ، فأجبتُ بالنَفي ، وفي الحقيقةِ- الوحيدة اللّتي لم أنساها هي اللتي لم تطلُب مِني عدمَ نِسيانها .


الم أذكر مسبقاً أن القهوة لها مفعُول السِحرِ ، فما بالك إن تذوقتها من يدِ "سعيد" صانِعها الشابّ ، ويُعزِزُ مفعولها بضعُ سيجارات ، فأتوهُ بداخلِ نَفسي أكثرَ فأكثرْ ، اتذَكرُ أصدقائي القُدامى وكيفَ صِرنا ، واتذكرُ بَعضَ نَصائحِ المُعَلمين الطيبين اللذين قاموا علي التدريسُ لي في مراحلِ تعليمي السابِقَةُ ، وأتذَكرُ اغلى الناسِ على قلبي ، والآن قد حالَ بيني وبينهمُ الترابُ .


وبينما انا أفكرُ في الماضي بدونِ أن أحكمَ عليهِ وأستخلِصُ منه ما يُفيدني مستقبلياً، وأمارسُ هِوايتي المفضلةُ (التفكير ) وإذْ بي اتفاجئُ أنّي ارشِفُ آخرَ قَطراتٍ قد تَبقّت في فنجال القهوة ، فينقطعُ السِحرُ عن جَسدي لأرجعَ للواقعِ منْ جديدْ ، لأُفكِرَ في كيفيةِ جعْل الغَدْ أفضلَ من اليومِ ، اتناقَشُ مع "سعيد" حولَ أمورٍ عاديةٍ لا أجِدُ فيها التَشويقَ ، واجوبُ بعيني في المكانِ ذهاباً وإياباً ، وأعودُ إلي شَخصي السَّطحي البَسِيط مرةً أُخرى ِأودِّعُ ذكراياتٍ قد بقيَت رُغمَ رَحيلِ أَصحابِها .


بقلم : معتز /2021

.


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

عااش ربنا يوفقك

إقرأ المزيد من تدوينات معتز غريبيل

تدوينات ذات صلة