من الممكن أن نجد نظرة متجردة عن طبيعتها في القضايا الإنسانية؟، وهل ستضيف شيئاً معينا إذا حاولت التوفيق بين كل الظروف والأزمنة.

بدأت فكرة الإنسان الاعلى تتبلور في عقول الفلاسفة بداية من الشاعر والفيلسوف الالماني جوته، قبل أن تنتقل الى فيودور دوستويفسكي، وخاصه في رواية الجريمة والعقاب، أين يظهر بشكل واضح نظريه الانسان الاعلى بالنسبة له، قبل ان تستقر عند الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، الذي استعان بنظريات كلّ منهما، ليُخرج منظوره "النهائي" حول عُلوّ الإنسان.

في هذه المقالة اخترت أن أتوقف عند دوستو، لأن نظرته عن الإنسان الأعلى تختلف عن الألمانيين!، وقد تكون هذه النظرة هي أقل ما يُعرف عن” المُقامر“.


هل علينا تجاوز الإنسان السيئ وإقصائه من الوجود؟، في رواية الجريمة والعقاب، يروي فيودور قصة شاب من سانت بيترسبورغ وقد نزلت به الظروف الى الفقر الفاحش، يدعى ذلك الشاب روديون راسكونليكوف، وقد كان طالباً في كلية الحقوق، فقد اطر روديون لبيع اعزّ، الذي يتمثل في ساعة والده، لكي يدفع أجرة البيت.

اتجه روديون الى الساعاتية، والتي استغلت ظرفه القاسي وحطّت من ثمن الساعة الى الدرجات الدنيا، فالتهب الشاب غضباً لهذا الظلم، وقرر معاقبة العجوز، إذ لم تغادر فكرة” قتلها “ذهنهُ المُغضب!

إنها عجوزٌ تعيش على أنقاض البؤساء والمحتاجين، إنها امرأة سيّئة ومنها الكثيرات والكثيرين. هذه المرأة عبء على الإنسانية. يُحدّث نفسه روديون!

دبّر راسكولنيكوف جريمته بدقة، فقدد تسلل لبيت الساعاتية، وشقّها بضربة فأس ليشقّ رأسها نصفين! لكنه لن يلمح وجود أختها في البيت، وبما أنه لم يفكر لوهلة بالعدول عن جريمته، فقد قرر قتل اختها أيضا لكيلا يُبقيها شاهدة ضدّه.

في صدر الرواية نجد تحقيقات، خوف من أن يتم القبض عليه، الوسوسة، نقاشات في عقل روديون، وعديد الأمور المعقدة، التي يتلاعب بيها دوستو بمهارة نادرة، لكن هناك شيءٌ واحد لا يتغير في عقل الشاب روديون، هو أنه لم يندم عن الجريمة.

راديون متيقن حق اليقين أنه لم يرتكب أي خطأ!، قتل تلك المرأة ليس شراً بل أمراً بديهيا، كان يجب تخليص الإنسانية من ذلك السوء!

” مع غاية صلبة ونبيلة، نستطيعُ القيام بشيءٍ مخزي“، هكذا يرى دوستو الإنسان الأعلى، وهي لا تبتعد عن نظرة ماكيافيلي، الغايات تبيح الوسائل، إنما التعديل الذي أضافه دوستو، هو الإقتناع بنبل تلك الغاية.

كان يرى بأن نابليون كان على حق، عندما اطلق النار على عديد العُزّل،” فلولا تلك العملية، لما عرف العالم قائداً فذاً وعظيماً. “

راسكونليكوف أعلى لنفسه الضوء الأخضر للدعس عن الأخلاق لسببٍ أعلى وأرقى، وهو إزاحة الشر.

من الضروري أن نزيح بعض البشر من أجل استمرار البشرية، هكذا يُصوّر راديون جريمته.

دوستو لم يكن شيوعيّ الايديولوجية، على الأقل لم يصرح بذلك، لكن تفكيره كان الأكثر شيوعية بين المفكرين، فقد حكم عليه بالسجن في بانيا لمحاولة قلب الحكم ضد” التزار“ نيكولاس الأول الروسي.

الايديولوجية الشيوعية تعمل بنفس الفكر والطريقة، اقصاء السيىء بالجريمة لهدف أسمى وطيب! فهل نستطيع القول أن دوستويفسكي كان الأب الروحي” الأدبي“الذي لازم الانقلاب السوفييتي والجيش الأحمر!

الإنسان الأعلى هو القانون ولا قانون يعلو عليه، لأنه الفاروق والفيصل، فهو يملك سلطة الاصلاح، وجرأة الاصلاح! هذه هي نظرة دوستويفسكي.

هل نجحت فكرة الإنسان الأعلى السوفييتية والنازية؟ لم تنجح، ومع ذلك، دعونا لا نأخذ موقفا بالتأييد ولا بالرفض.

كانت نظرة جوته للإنسان الأعلى شاعرية وعاطفية، فقد كان متأثرا بالإسلام كثيراً، وكان الجو في بروسيا وقتها مستقراً، أما نظرة دوستويفسكي فكانت وليدة البيئة القاسية في روسيا، فالأدب الروسي كله تأثر بالحكم والاقتصاد الروسي الوعر.

فهل من الممكن أن نجد نظرة متجردة عن طبيعتها في القضايا الإنسانية؟، وهل ستضيف شيئاً معينا إذا حاولت التوفيق بين كل الظروف والأزمنة.

انتهى

#عمادالدين_زناف



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

بوركت 🌹

إقرأ المزيد من تدوينات عماد الدين زناف

تدوينات ذات صلة