إذا أضاعت الإنسانية المبادئ الأولى للفكر، فلين تستطيع انتاج فلسفة تتماشى وعصر "ما بعد الإنسانية" أو عصر "الذكاء الاصطناعي الخالص"

تأملات في الفلسفة 32885745500553030



تأملات في الفلسفة 📃


يسأل الكثير من الذي يودّون ولوج عالم الفكر والفلسفة عن الكتب الأساسية في هذا المُحيط الواسع، ومنذ أكثر من سنتين تقريبياً، أردّد نفس الاقتراح، كُتب الرواقيين جميعاً.

من الإحسان ومن الغضب لسينيكا، المُختصر لإبتكتيتوس، وتأملات الإمبراطور الروماني ماركوس أوروليوس. لماذا؟ لأن الرواقية وفّقت بينَ أمرين أساسين في الأدب التربوي، الأول هو الفلسفة بكل ما تحمله من واقعيّة، الواقعيّة الرومانية المعروفة بالمبادرة والعمل والتوسّع، المتأثرة بطريقة مباشرة بالفلسفة الإغريقية الأم، التي، وعلى عكس الفلسفة الرومانية، هي فلسفة افتراضيّة (من الافتراض والفرضية) فكرية نفسيّة طوباويّة وعلميّة، والثاني هو الأسلوب السّهل، الكتابة الدّارجة، الكتابة القريبة من اللغة، أي، لا تعتمِدُ على البلاغة والمجاز والعالي، إنّما هو أسلوب يخاطب العوام، بتكثيف الحِكم فيما أصبحَ يُسمّى بالمأثورات.

فإذا تكلّمنا عن تأملات ماركوس أوريليوس، فسوف نجدهُ أنه يقترب من أسلوب الخواطِر، بَيْدَ أن تأملاته أنضج من الخاطرة، ذلك أن الخاطرة لا تعدو أن تكونَ فكرةً غير ناضجة، أم التأمل، فهو التوسّع في مجموعة خواطر وأفكار مبنيّة على أسس تجريبية. فالمُتحدّث إمبراطور عظيم لدولة عظيمة آنذاك. يُحدثنا ماركوس عن أمور بسيطة بالرغم من أنهُ يتقلّد أعلى مناصب الدُنيا، ولا يُظهر أنه يشرح الحياة، بل أنّهُ يُظهر ما تعلّمهُ من تجاربه، فتجدُهُ يتحدّث بكل بساطة عن يوميات أي إنسان في هذه الحياة، حيق يقول في مأثورة "من الفجر، قُل لنفسك من البداية، سأقابل الحسود، الغيور، المُخادع، الغضوب" فهو بهذا يُعلمكَ بأنك ستقابل كل أنواع البشر، وبهذه المعرفة، لن تجد نفسكَ متفاجئا إذا ما صادفت واحد من هؤلاء، ذلكَ أن تعي ما يحملُهُ لك اليوم، وبهذا، ستكون ردة فعلك أكثر رصانة وحكمة، وأن برفضك لهذه الحقيقة الإنسانية، بوجود هؤلاء، ستجد نفسكَ تعاني من تكرار الصدمات والمفاجئات، ذلك أنك تنكر يوميا وجدو هؤلاء في كل وقت وحين.

يقول، "لا تزعجني الأحداث، بقدر الآراء على تلك الأحداث"، وهذا لكي يجعل فكركَ يصبّ دائما عن الأحداث، لا عن التعليقات المحيطة بها، ذلكَ أن البشر لا يملكون نفس الخلفيات الفكرية، رغم نظرتهم الواحدة للأشياء، فالآراء تشوش وتحجب لنا حقيقة الأحداث، فقد يكونَ لكَ رأي سليم عن حدثٍ ما، غالباً ما يصابُ بتشوّهٍ عندما يختلط بآراء أخرى. لذلك، ليسَ عليك أن تراعي الآراء، بل عليك أن تهتم بالوقائع، كي يكونَ لكَ النظر الصحيح.

هذا النوع من الفلسفات، حتى الإغريقية منها قد وَلّى. لذلكَ علينا أن نعودَ إليه من حين إلى آخر، ذلكَ أن الأمور البسيطة هي الأٌقرب للفهم والتنفيذ السريع، لمن لا يرى نفسه قادراً على الغوص في الفلسفة ذات البعد الجديد.

وإذا تكلّمنا عن فلسفة ذات بعد جديد، فلا يمكننا تحاشى ذكر هيجل كمثال غيرِ دارج، أو الفلسفة الهيجيلية، ذلكَ أن هيجل جاء بمفهوم مُطوّر للجدليّة (الديالكتيك)، فقد فسّر بأن لكلّ منا فكرة، ولتلك الفكرة حدود معرفية، وكلما وضعنا الفكرة تلك في النقيض الذاتي autocontradtion أو النقيض الخارجي، نعود إلا بناء الفكرة من جديد على أسس أكثر صحة ودقّة، إلى غاية بلوغ الفكرة الناضجة الكاملة، وهي نفس فكرة باشلار وكارل بوبر، كلمّا تعرضت النظرية العلمية إلى النقض والتفنيد، كلّما أصبحت أقوى، أو ضعفت واختفت. تجربة التفنيد التي كانت منذ أيام سقراط، هي التجربة الفلسفية الأقوى لأي نظرية في أي علمٍ كان.

فعندما نتحدّث عن الفلسفة، وبما أن هذا المقال يحكي بكل مسحي "تأملي"، نجد بأن للفلسفة أبواب ومدارس، لا يمكن تجاوز هذا التدرّج المعرفي فيها، فالفلسفة جارت الإنسان منذ بداياته، وتفاعلت وتطورت مع تطوّره، مع كبر مشاغله واهتماماته واكتشافاته. من هذا المنطلق، علينا أن نعلم أن فلسفة الغد لن تكون هي فلسفة اليوم، والقول بهذا لا يعني نفي الفلسفات القديمة، فكما أشرت، الفلسفات القديمة هي حجر الأساس لهذا الفكر، والتخلي عن الفلسفات القديمة يعيدنا لنقطة الصفر دائما. ذلك أننا لا جيب أن نتجاهل كُتُب وأقوال القدماء، لكلا نُعيد اختراع العجلة في كل مرة. فإذا أضاعت الإنسانية المبادئ الأولى للفكر، فلين تستطيع انتاج فلسفة تتماشى وعصر "ما بعد الإنسانية" أو عصر "الذكاء الاصطناعي الخالص"


.


المقال 281

#عمادالدين_زناف


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات عماد الدين زناف

تدوينات ذات صلة