ن العلم إذا ما طلّق الحكمة فسوف يعود بنا إلى الحرب العالمية الأولى والثانية والقنابل النووية والتجارب العلمية التي أبادت وشوهت شعوباً،


ما بعد الإنسان، وكارثة انقطاع العلوم عن الحكمة.


نحنُ على أبوابِ ما يُسمّى ما بعدَ الإنسان (Transhumanism)، وهو تزاوج بين تطوّر الذكاء الاصطناعي مع علم البيولوجيا، يهدف إلى تجاوز الإنسان الحالي، وجعله إنساناً خارقاً بالمعنى الحرفي، والهدف الأسمى كما يروّج لهُ المدافعون عنه، هو محاربة الموت، أو تأخير الموت لسنواتٍ طويلة أخرى.

طبعاً، الحديث في هذا الموضوع يحتاج كتاباً بحاله، لأنه يفتح عدّة أبواب يجب معالجتها علاجاً علميا، بكل تفرعات العلم، الحسي العقلي والنقلي، غيرَ أن حتى في هذه المصادر، لا يتفق البشر، فمن يصدّق بنظرية ما بعد الإنسان، لا يؤمن بالروح قولاً واحداً، ومن لا يؤمن بالروح، يعتقد أن الإنسان يُعالج مادياً وحسيّاً فحسب، وبالنسبة لهم، سبب الموت هو الشيخوخة والكِبَر، وأن هذا الشيء "مرض عضوي" راجع للتخلّف العلمي الذي هم فيه! مُعالجة الموت بالنسبة لهم تمرّ بمعالجة الأمراض والقضاء عليها، بعد ذلك، يتم معالجة العمل العضوي الداخلي بإضفاء آلة (صناعية) تعمل على إطالة عمره. ومن بين هذا ذكرت في كتابي الشفق محاولة ايلون موسك للمساهمة في تطوير شريحة نيورالينك، التي تُزرع في الدماغ، لتجعل العقل يعمل بطريقة خارقة (تحليل وبحوث ومعلومات وحفظ بيانات). أما هذه، فهي لا تعمل على إطالة عمر الإنسان، بل تعمل على "نجاحه" في كل الحالات، وربما تزيد من التباعد الطبقي بين الناس، بين من يملك شريحة في عقله، وبين من يفكر بشكل طبيعي.

قضيتنا اليوم ليست في زراعة أعضاء آلية لكي تخلف اليد الحقيقة والرجل الحقيقة أو أي عضو مبتور أو عضو داخلي سقيم، فقد تكون هذه من حسنات العلم والتطور، مثلما ساهم العلم في اختراع نظارات وسماعات، يستطيع ربط الآلة بأعصاب الجسم لكي يتحكم فيها. القضية أعمق من هذا بكثير، فالتطور العلمي أمر لا بدّ منه، فالإنسان يستكشف يومياً أموراً تجعله يفكّر بطريقة مختلة عن السابق، فليس الذي يعلم كالذي لا يعلم، والعلم هذا يفتح أفاق ويجعلك تجرّب دائماً.

لكن كيف تحوّلت الفانتازيا في شاكلة العمر الأبدي وقصص مصاصي الدماء إلى محاولة واقعية؟ كيف تجاوزَ هؤلاء الحاجز بين الحقيقة والمستحيلات وجعلوا المستحيلَ غاية؟ السبب هو غياب الحكمة بشكل كامل، والغرور بالعلم والمادة التي ينعمون بهما.

في السابق، تلكم الحكماء من الفلاسفة عن فن الموت، وفن تقبل الموت، على رأسهم الفلسفة الرواقية، فقد قرّروا في فلسفتهم أن الحياة نوعان على البشر، نوع يُتحكّمُ فيه، ونوعٌ لا يُتحكّم فيه. فما تتحكّم فيه مثل الاجتهاد والعمل والتربية والأخلاق والعبادة والتمييز والتحليل هو من الممكنات، أي ممكن أين تفعله أو لا تفعله، أما ما لا تتحكّم فيه مثل المرض وجنسك ونسبك وموتك، فهو من المستحيلات، وما يتبقى لك فيهم سوى التمنيات. فقد كانت الشعوب تتمنى هلاك الملوك الظلمة، وتدعوا بطوال عمر الملوك العادلين، بيدَ أنها أمور لا تتغير بالقدرة البشريّة. وهذه الفكرة تتماشى مع ما جاء به ديننا، فنقول إنه دعاء لله بالتخفيف من وقع المصائب، وإطالة عمر الخيرات. وقد كانت كل ثقافات العالم تدرك هذا المعنى عقلياً، فقد كانوا إلى زمن قريب يفكرون بأسلوب عقلاني وبفطرة تامة، فالسجيّة تدرك الناس المعقول من المستحيل عقلا، وأن المحسوس لا ينفي المعقول، وأن المعقول ال يُدحض بالمحسوس!

إلى أن جاء هذا الزمن، الذي تجرّأ فيه الإنسان عن فطرته بعد أن كان يحترمها لوقت قريب. وإنما لا يحدث هذا إلا عندما يحسبُ الإنسان أنه بلغ من العلم ما يجعله ربا على نفسه، فهذا ما جرّأ فرعون وسائر ملوك مصر إلا من كان حكيما منهم، وما جرّأ من قبلهم الآشوريين والبابليين، ومن بعدهما الإغريق والرومان، فقد وصلنا من تاريخهم أن العالم لم يعرف قبلهم تفتّحاً على العلوم، حتى أسموا أنفهم بأرباب لا ملوك، ومع ذلك، دالت عليهم وانقرضوا الحضارة تلو الأخرى!

فلو كان لهذا العالم من الحكمة الشيء اليسير، لعرفوا أن واسع العلم والمعرفة لا يجل الإنسان يتجاوز رغبته في الذهاب إلى الحمام للتغوّط، ولا يجعله يتجاوز مشاعره، ولن يفعل ذلك حتى يهدم طبيعته وبذلك يعجّل بهلاكه (شاهد فيلم equilibrium) وحتما لا يجعله يتجاوز المرض، وطبعا لن يتجاوز الموت بأيّ حال من الأحوال، حتى لو أعاد تركيب نفسه بكل عضوٍ من الذهب الخالص.

غياب الحكمة من نكران الروح، ونكران الروح من نكران الخالق، فالحكمة كلها في توحيد الله دائماً، ومن زاغَ عن هذه الحكمة بنا من علمه هرما من الورق، يهبط ويخر في أيّة لحظة وبأي نسمة.

فطلب البقاء الذي يبحثون عنه نابعٌ عن شقّين، الأول هو اليأس، فالإنسان المُفرغ روحيا، وكلما تقدم به العمر، شعر باليأس والخوف القريب من الرهاب من الموت، فيجعلُ يبحث عن كل الطرق لإطالة عمره، وأن يمدّ من شبابه، وهذا عُرف من القدم، بينما أعطى العلم نفساً لليائسين بأن تطولَ اعمراهم حقيقةً لا مجازاً. أما الثاني فهو الطغيان الصّرف، والطغيان من جنس التحدّي، فهم يتحدّون الله بشكل صريح، وآخرون يتحدّون طبيعتهم، ويعتقدون أنهم يستطيعون ترويض كل شيء.

فأما المؤمن بشكل عام، فهو أرقى مخلوق فكريا وعمليا في الكون، ذلك أنه يتّفق مع طبيعته، ويؤمن بعدم خلده في الحياة الأولى، وتقبّل الموت يولد في الإنسان الراحة، والعمل على ترك أثر حسن، والتطلع على آخرة مزهرة.

قبل أن أختم المقال، أقول إن العلم إذا ما طلّق الحكمة فسوف يعود بنا إلى الحرب العالمية الأولى والثانية والقنابل النووية والتجارب العلمية التي أبادت وشوهت شعوباً، فالعلم غير الحكيم هو أكبر نقمة على الإنسانية حتى لو اكتسى لونا زاهي ورائحة الورود، فالغاية التي تبقى منحصرة على وفي الماديات، تستحيل دماراً شاملاً، ولا ريب ولا شكّ في أن كل المشاريع التي ترمي للبقاء في الأرض ستكون على حساب أرواح أخرى.


المقال 309



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

الاغرب هنا هو صمت البشرية عما يحدث او فلنقل تجاهلهم لهذا التشويه العبثي من طرف من لا يؤمنون.. اتساؤل كيف وصل بنا الحال الى هاته الدرجة من "اللامبالاة" و "اللاتفكير" و "اللامقاومة"..

إقرأ المزيد من تدوينات عماد الدين زناف

تدوينات ذات صلة