نظم العمل الحديثة قائمة على التهديد والرعب الدائم من فقدان الأشياء ..تهديدٌ معنوي أن تفقد ما وصلت إليه!
قبل خمس سنوات تقريبًا، في الثاني والعشرين من يوليو 2017، كنت أسير في مقبرة إدرنة كابي، بمنطقة الفاتح في إسطنبول. كنت أمر على القبور أقرأ شواهدها، حتى وقعت عيناي على شاهد قبر مختلف عما حوله، مكتوب عليه بالعربية: "هو الخلاق الباقي"، وبالتركية اسم "جلال الدين وانغ زين شان"، و"لروحه الفاتحة"، وتحتها تاريخ ولادته في 1903 وموته في 1961، وبالصينية كلام كثير.
شعرت بألفة تجاه القبر وصاحبه، فالتقطت صورة القبر، وطلبت من الناس هنا أن يقرأوا الفاتحة للرجل. ولم أفكر كثيرًا، لكن بعد مرور وقت ما، أردت أن أبحث عن الرجل أكثر. وفي مصادر مختلفة بالتركية والإنجليزية وجدت هذه القصة الملهمة، الصعبة، اللطيفة، التي تشبه قصصنا.
وُلد وانغ في مقاطعة سيشوان جنوب غرب الصين، لعائلة مسلمة مثقفة، ويبدو أنه كان مهتمًا بالثقافة منذ صغره. أثناء دراسته في جامعة بكين في منتصف العشرينات، كان الشاب مهتمًا بالتاريخ العربي والتركي، ويبدو أنه تعلم شيئًا من العربية في هذه الفترة، والتركية أيضًا. وفي عام 1928، أراد إكمال دراسته في تركيا، فغادر إلى إسطنبول ليدرس التاريخ في دار الفنون (الاسم القديم لجامعة إسطنبول)، وهناك التقى بعدد ممن سيصبحون عما قريب بعض أهم أدباء ومفكري تركيا. وبعد أن أنهى دراسته عام 1931 عاد إلى الصين ليعمل في الحكومة.
يبدو أن وانغ عمل في هذه الفترة في وزارة الخارجية، لأنه قاد وفدًا صينيا إلى الشرق الأوسط عام 1935، ومثل بلاده في دول أخرى في الأعوام التالية. في تقارير صحفية تحدثت عن الرجل في نهاية التسعينات، قالت زوجته فاطمة وانغ، والتي تصغره بخمس عشرة سنة تقريبًا، إن الرجل زار إسطنبول مرة أخرى عام 1938 بعد وفاة مصطفى كمال أتاتورك. ربما لم يكن يحب أتاتورك، أو لم تكن الدولة التركية الجديدة تحبه.
ظل الرجل يعمل في الحكومة الصينية في أوقات عصيبة، وتولى مناصب مختلفة، منها عمله في منطقة تركستان الشرقية، شمال غربي الصين (إقليم شينجيانغ موطن المسلمين الإيغور). انتهت الحرب الأهلية بإعلان ماو تسي تونغ قيام جمهورية الصين الشعبية عام 1949.
علاقة جلال الدين وانغ بالحكومة المنحلة، وعداء الدولة الجديدة للدين، وللإسلام، قاد الرجل، وزوجته، وأطفاله الثلاثة، مع 200 جندي إلى الهروب في رحلة في شتاء 1949-1950 عبر الهيمالايا استغرقت شهرين، واللجوء في الدولة الإسلامية الجديدة، التي تأسست قبل ذلك بعامين فقط، باكستان. لكن بعد ست سنوات، وخمسة أطفال جدد لعائلة وانغ، تغيرت باكستان، أو -إن شئت قل- تغير العالم، واعترفت باكستان بالدولة الصينية، وغادر وانغ إلى تركيا بدعوة من صديقه الأستاذ بجامعة إسطنبول زكي وليدي طوقان.
ولزكي طوقان هذا قصة لا تقل إثارة عن قصة صاحبنا وانغ، إذ قاد ثورة في إحدى جمهوريات الاتحاد السوفيتي عام 1919 في سن التاسعة والعشرين. استمرت ثورته لسنوات قبل أن تفشل ويغادر إلى إيران، ليكتشف المخطوط الأصلي لرسالة ابن فضلان، التي كتبها أحمد بن فضلان قبل ألف سنة، يصف فيها للخليفة العباسي المقتدر بالله رحلته إلى بلاد الروس والبلغار والصقالبة. غادر طوقان مع المخطوط إلى إسطنبول. بعد قليل سيرأس قسم التاريخ في جامعة إسطنبول، قبل أن يضطر للمغادرة منها إلى النمسا عام 1935 بعد أن أثار غضب الأتراك بشأن روايتهم للتاريخ، إلى أن عاد من جديد إلى تركيا -على ما يبدو- بعد الحرب العالمية الثانية، لينخرط في السياسة لسنوات قبل أن يرأس معهد الدراسات الإسلامية في جامعة إسطنبول عام 1953. ومن هناك دعا وانغ للقدوم إلى إسطنبول.
عندما جاء وانغ إلى تركيا، كان لديه ثمانية أبناء، ووظيفة في الجامعة، وحياة غنية، لم تكن دومًا سهلة. هناك أسس قسم الدراسات والحضارة الصينية في جامعة إسطنبول. عاش جلال الدين في شارع هورهور في منطقة آكسراي، على بعد مئات الأمتار فحسب من الجامعة، لكنه سريعًا أدرك أن راتب الجامعة لن يكفيه لإعالة أبنائه وبناته، لذلك افتتح مطعمًا، مع شريك من تركستان الشرقية، في منطقة تقسيم، ليكون أول مطعم للأكل الصيني في تركيا.
ومطعم جلال الدين قصة نجاح، إذ أن شريكه أجبره على الانسحاب من المطعم بعد وقت قصير من افتتاحه، وليغلق بعد ذلك بوقت قصير. اضطر الرجل إلى الاقتراض من أصدقاء له وافتتح مطعمًا جديدا في نفس المنطقة، كانت تطبخ فيه زوجته، وتديره الأسرة. ليتحول لسلسلة مطاعم في مناطق مختلفة من تركيا خلال العقود التي تلت.
احتاج جلال الدين أن ينتقل إلى تقسيم، لكن صاحب البيت الذي كان يستطيع تحمل كلفته لم يكن يؤجر المنزل لعائلات كبيرة، فاضطر وانغ لإبقاء أربعة من أولاده في آكسراي، لأشهر قبل أن يستطيعوا جميعًا العيش تحت سقف واحد من جديد في حي فيريكوي، غير بعيد عن ميدان تقسيم ومطعمهم "المطبخ الصيني".
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات