كيف يمكن لقرار واحد أن يغير مصيرك للأبد.. حكاية فتاة عربية في مجتمع تحتاج فيه أن تنتزع قرارك.. وكيف وجدت نفسها أمام مفترق طرق ولابد لها من اتخاذ قرار



رحلة قرار


سَمِعَت طَرقاً على نَافذتَها بإيقَاع ثَابِت قَويّ مُخيف.. فَتحَت عَينَيها المٌتعبة لتَرى من الطّارِق..

كَانت السِّتَارة الخَفيفة مُتطَايِرة وتَعكِس ذلك الظِل الأسوَد الذي أطلّ من خَلف النَافِذة..

كان الظل واقفاً ..ويَطرُق بقُوة.. وكان يَقتَرب من السِتارة و كلّما اقتَرب خُطوة تَختَنق أكثَر..

عَبَرَ من خِلال الزُجاج ولم يُوقفه أي حَاجِز.. احتَقَن وَجهها مَع اقترابِه ..

وشَعَرت بِجَسَدها يَتجَمّد مَكانَه.. واحتَبسَت صَرختها من شدّة الرُعب..

حَاولت أن تَصرُخ ولكن مُحاولاتها بَاءت بالفَشَل ..

اقتَرَب الظِل أكثر.. قاوَمَت الخَوف..

ثم أطلَقت الصَرخة أخيراً..

واستيقَظَت..


قبل 4 أشهر مضت.. دقّ الجَرس في آخر يَوم من أيام الامتحَانات لِيُعلِن انتهاء عَام حَافِل..

سَكَنت خِلاله الكَثير من الحَكَايا بَين الجُدران المَدرسية ..

وأجَراسُها المُعلِنة عن خَاتِمة حِكَاية وبِداية حِكَاية جَديدة..

مشت مع صَدِيقتها التي كَانت تُعبّر بشَغَف عن مَدى اشتِيَاقِها للعُطلة وتَحَرّقِها لقراءة الرِوايَات ..

لم تَكُن تُحب هذه القِصص الخيالية..

التَي تَسحَر العَقل وتَحمِل من الأكَاذِيب والهُراءات ما هي في غنىً عنه..

لكن لَفَتها عِنوان قِصة كَانَت صَديقتها تَحكي بَعض تَفاصِيلها..

رِوَاية تُسمى "الخِيميَائِي".. فِيها دَلالات وإرشادَات حَول مَعرِفَة الطَريق واستِلهَام الخِبرَات..

لِيَجد الإنسَان ما يُحِب ويَتبَع بُوصَلة قَلبِه لِتَدُله على مُبتَغَاه..

وهذا يَحتَاج إلى الإصرَار والبَحث العَمِيق ..

فهُنَاك ما يُسمّى بالإشَارَات التَي يَهديها الكون للباحِث..

ليُريَه مَسَار حَياته الحَقيقي.. وأن كُل الكَون سَيَتظافَر ليَجعَله يَصِل لمَا خُلق لأجلِه..

كَان هذا آخرَ يَوم تَرى فِيه صَديقاتها ..فَقد فَرّقَهم القَدر بَعدها..

لكّنها قَرأت الرِوايَة بِدافع الفُضُول في البِداية لتَرى هل حقاً تَستَحِقّ القِراءة..

وعِندما أغلَقَت آخِر صَفحَة منها كَانَت قَد أدمَنَتهَا..

فلها الآن طَريق خَاص للسَّفَر عَبر الكَون والمُستَقبل..

وأنها سَتُتحقق مَا تُريد رُغماً عن كل القُيود..


استيقَظت بَعد ذلك الكابوس .. في تلك الليلة المَاطرة..

كَانت تَلهَث بشدّة وقد جَفّ حَلقها من هذا الكَابوس..

جَرَعت من كَأس المَاء الذي بجوَارها.. وعادَت تحت لِحَافها تُلملم الدفء الذي تَبعثَر..

نَظرَت للنَافذة التي على يمين فِراشها لتَتيقّن من أنه لم يَعُد هُناك..

وابتسمت برَاحة ..جَلست قليلاً تَستِمع لذلك الطّرق القًوي ..صَوت المَطَر المُرتَطم بالنَافذة..

الذي كَان قد دَخل سِينَما أحلامَها وبَعثَرها.. تَأمّلت السِّتارة التي كَانت تَتطَاير مع الهَواء القَادم من الخَارج..

ثم نَهضت لتُغلقَها .. نَسيَت أن تتفَقّدها قبل أن تَنام..

شَعرَت أن ذلك الكَابوس وذلك الظِل يُجسّد خَوفها وقَلقَها من قَرارها القادِم..

فَهي لأول مَرة ستَتخذ قَراراً مصيريّ لكن كُل ما يُحيطُ به كان مُبهماً ..

ولازالَت في الثامنة عشرة .. سَيعتَمد على هَذا القَرار كُل الطَريق القَادم الذي سَتَسلُكه..


حدثت نفسها :

- هل حُكِم عليّ أن أتخذ هذا القرار؟ لمَ لا يَتّخِذهُ والداي عني..لأهدَأ من التَفكيِر..

وأنتهي من هذه الحَرب الشّعواء بِداخل رأسِي ..كانت تَستَيقظ كُل يَوم قَلقَة خَائِفة من هذا القَرار..

حتى أن أسنانها تكون صَباح كل يوم مُصطَكّة ومُتصَلّبة.. ستَخسَر أسنَانها التَي بَدت تتَشقق من شِدّة الضَغط ..

لقَد مَرّ على انتِهاء المرحَلة الثانَوية أشهر طويلة.. وكُل زَميلاتها قد اتَخَذن القَرار..

أو عَلى الأغلَب فَإن ذَوِيهم قَد اتّخَذوا القَرَار مُسبقاً مُنذ زَمن طَويل.. طبيب.. مهندسة.. تاجر..مصممة ..

وبَدأَت رِحلَتهم تَتَخذ مَسَارَات واضَحة المَعَالم.. تَأمّلت الأمطار طَويلاً واختَلطَت دَمعاتها ونَشيجها المكتوم..

مع صَوته القَادم من السَماء ويَرتَطم بكل شَيء بفَوضَى صَارِخة ..ليَزيدَ قَلبها الصغير قلقاً وارتجافاً..


سمعت بداخلها صراعاً:

- لَم تقع زَمِيلاتي بذرّة حِيرة من التي وَقَعتُ بها.. أنا تَائهة..لا أعلم أين وِجهَتي..

ولا كَيف سَأمضِي..قد يكون تأخير الدراسة قليلاً مناسباً لأتخذ قراراً صحيحاً بتَأنٍ وتَمَهُّل..

سَأعمَل رُبما كَان العَمل بِمَقدُوره أن يُوضح لي مَسَاري المُستَقبلي..

الكَثير من القِصص والتَجارِب حَول الاختِيار وتَحديد المَسَار كانت قد سَمعَتها وأرّقَتها..

مثل قِصَة شّاب تنقّل بين خَمس تَخصصات في المرحلة الجَامعية ..

حَتى التقى أخيرا بقدره الذي يُحب.. فالأمر شَاقّ ومُكلِف..وهذا فَوق مَقدرتها وتَحمّلها..

لابُد من ضَيَاع المَرء ليَكتَشِف دَربَه ..ناجت المطر


قائلة :

- حتى أنت يا مَطَر تَعلم أين سَيكون مَسارُك القادم..

فأنت تَستَسلم للأرض لتَأخذك مُنحَدرَاتها إلى الوِديان..

وعندما تَتَجمع هُناك تُحقق حُلُمك وتَبني لك بَحراً من قَطرات..

خَرَجَت من بَاب غُرفتها لتُخبر وَالدَيها أنها سَتَبحَث عن عَمل لِتَتخذَ القَرار بِشأنِ دِراستها..

لَكنّهما كانا قَد قررا مساراً مختلفاً ..

- لقد تَقَدّم لك شاب للزَواج.. ووجدناه مناسباً لك.. سَيَتكَفّل بمُستقبلك..

- لكنّي أريد أن أعمل وأكمل دراستي ..لن أتزوج أريد أن أكون مثل صديقاتي..

- النَفقَات الجَامعيه أكبَر من مقدرتنا..


وهناك ثَلاثة غَيرك نَقوم بِرعَايتهم..هل هذا القَرار الذي تَمنّت أن يَأخذوه عَنها؟ ..هل قَرارهم يُزيل أم يَزيد حَيرتها ؟

إذاً لن يُقرر عَنك الآخرون مَا تُحب .. بل سَيكون قرارهم ما يُحبون..

هَرَبَت من المَنزِل مُسرعة لِتَسير بَين الطُرُقَات تحت المَطر وعَزمت على أن تجد العَمل الذي أرادَت حَتى يَكون الدَليلُ نَحو مَسيرة حَياتها..

عَادت إلى البَيت ومَلابِسها مُبتلة..وَقفت على النَافذة..

وهَطَلت قَطرَة مَطر أشرَفَت على المَدينة وعَكست بَداخل جدرانها كل القِصَص والحَكَايا فِي المَنَازل المُحيطة..

كَعَدسة كَامِيرا التَقَطَت كُل شَيء.. ولَخّصَت الحَكايا في سُطور دَاخل ذَاكرتها القَصِيرة..

ومن ثُم سَقَطت عَلى خَدها وانسابَت كَدمعة تَارِكة سُطور كُل الحِكايات مَلقِيّة على وَجنَتها..


مسحت الدمعَه المُختلطة بالمَطر..واستدارت لمِرآتها لتَرى الشَيب بَدأ يَغزو شَعرها النَاعم ولا زالَت في الثَلاثين من عمرها..

والقَرَار يُطارِدُها.. والهَالات السَوداء غَزَت عَينَيها المُؤرَقتين.. ألقَت نَظرَة على سريرهَا لتَراه نائماً كجُثة هَامِدة.. إنه مُنتصَف النّهار..

ولا زَال هذا الجَسَد المقدّر أن يَكون زَوجها خامداً في نوم عَميق بانتظار من يَخدمه..

سَمعَت طَقطَقة احتِراق بَيت أحلامِها الذي بنته بِداخِلها ودُخانه كَاد يَخنِقها..

نَزَلَت عَلى السَّلالم و عَادت أدرَاجَها بالزمَن للوَرَاء مع كُل دَرجة في السُّلم عَادت سَنَة من سَنوات عُمرِها المُبعَثر..

حَتى وَصَلت إلى آخِر دَرَجة وآقدم ذِكرَى كَانت فِيها على قَيد الحَياة وقَيد الانتِظار..

لكن القَرار تلاشَى وانتَهى ..وَجَدت نَفسها بَثوب الزّفَاف الأبيَض تُزف الى القَبر الذي دُفنَت فيه.. لخمسة عشر سنة..


فَتَحت البَاب لِتَخرج هِي وتِلك الطِفلَة التي سَكَنتها ..بِخُطىً مُثقَلَة..للبَحثِ عن عَمل.. وهَبّت نَسمَات الهَواء البَارد.. وأكمَلت المَسِير المُتَخبّط ..

عَادَت من بَحثها خَالية الوِفَاض..تَفقّدت المَنزل المُهتريء..ووَقَفت على بَاب الغرفة لتَرى أطفَالها الأربَعة نِيام..

عَادت لِمرآتها ونَظَرت لعَينَين سَكَنتا في عَينَيها كانت ذَات العُيون القَديمَة..

ما أطول ساعات الانتظار وأنت تجلس تحدّق في وجهِك ..التَردّد القَديم قَضَى على مَلامِحِها كَمرض يَحتاج لِبَتر وحَسم..

ففي حَالة التَردد والانتظار لا تَستطيع فِعل شَيء..لا بُكاء ..لا قِراءة ولا صُراخ ..فَقط تَتَجرّع اللاشَيء الذي تَعيشُه..

تأمّلت النّافذة المُشرَعَة التَي يَدخُل مِنها الهواء البَارد المُتجَمّد..فقد اعتَادت على ذلك الهَواء في غُرفتها وفي نافذة رُوحِها وفي عَمَلها..

فقرارهم يُعرّي رُوحها كُل يوم تَحت وَطأة الحَياة.. خَرجت من دَورة المِياه ثم عَادت ونَظرت للنَافذة المُغلقة ..

لم تُغلقها لكن هُناك من مرّ و أغلَقها ليُعيد الدِفء مِن جَديد.. تَأمّلَت السَيدة القَادِمَة..

التي وَقفَت أمامَها تَسأَلها عَن حَيَاتها بِدون مُقدّمات مُستغرِبة حَالها.. وكانت هي من أغلق النافذة..

لكنّها عندما سَمعتها تَقول " عيناكِ يَسكُنُهما شَيء غُريب"..ضَحكت ..نَعم يُوجد هُنالك شَيء غَريب ..ففِيهما رِحلَتها .. رِحلَة قَرار..

أضَاء في ذِهنها لوَهلَة رِواية الخِيميائي والإشَارات والرسَائل الكَونية..


هجس في نفسها خاطر:

- ربَّما كان مُرور هذه السَيدة من هُنا .. إشَارة لتَغِيير حياتي ورُبّما ترك شيء في حَيَاتها .. سَأعود لأنطلق من بَداية الطَريق..

الذي تَوقف عِندَه الزَمَن.. اشتَعَلت في عَينَيها الإرَادة ومضت.. لَيس هُناك مَا يُقيدها الآن.. زَوجها قد هَجر البَيت..

و لن يَعبَث أحد بقَرَارَاتها بَعد الآن..


انطَلقت بِثَوب رُوحها الجَديد المُتّقِد تَفاؤلاً .. بَحَثت في كُل المَواقع والأمَاكِن وصَفحَات الإنتَرنِت..

شُغِفَت بالعِلم والبَحث ورَوَت ظَمأ أسئلتها الحَائِرة..واستَلهَمَت طَريقَها مِن العُيون الوَاثِقَة المُتَألقَة..

وعَمِلت في أكثر مِن وَظيفة وكَانت الكُتب لا تُفَارِقها حَتى في أوقات العَمل..

أكمَلت طُمُوحَاتها وحَقّقت ذَاتها ..


والتَقَت بِصَديقة طُفُولَتها التَي زَرعت فِيها الخِيميَائي.. وعملتَا معاً..

ذابَ جَليِد رُوحِها وبَدأ نَسِيم مُنعش يداعب نَظَراتها..وتَسللت أشِعّة من الشمس تُنير دَاخلها..

فَقد أنارت الطريق لأبناءها.. وألهمتهم القرارات بتَجارِبَها وانتظارِها..

هي لحظَة واحدة التي تَحسِم بين النَجاح والفَشل.. لحظَة جُنون .. وتَصرف بِحُرية وطُفولة ..

فما أنت ساعٍ إليه سَيسَعى إليك.. ولن تَعرف إلى أية دَرجة أنت قَويّ حَتى تَكون القُوة خَيارك الوَحيد..

لنا حَياة واحِدة..فإذا لم نَضطَرِب ونَنَقلِب عَلى أنفُسِنا لاتخاذ القرار فمَتى نَصنَع ذلك؟


هداية السقا


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

تدوينات من تصنيف وعي

تدوينات ذات صلة