تعليم الهندسة للأطفال: رؤية علمية وتجربة شخصية

هذه التدوينة تشرح فوائد تعليم الأطفال الهندسة من عمر صغير حيث تحفز التفكير الإبداعي عند الصغار و تسمح لهم بالسؤال: لماذا و كيف. لا إجابات صحيحة محددة..

تعليم الهندسة للأطفال: لماذا يجب أن نبدأ مبكرًا؟

ذكريات تُلهم المستقبل

في بيت جدّي، حيث كانت رائحة الحديد الملحوم تختلط بعبق طعام جدتي، تعلمت أن اليدين تفعلان أكثر مما نتخيل. كان جدي يصنع من الخشب عالماً كاملاً، ويصلح كلَّ شيءٍ ينكسر. لم يكن يعرف أنه يزرع فيّ حبَّ الهندسة قبل أن أفهم معناها. كطفلة نشأت في منزل مليء بالإبداع العملي. كان جدي يعمل في ورشته الصغيرة، يلحم الحديد، يصنع الألعاب الخشبية، ويبتكر حلولاً لمشكلات الحياة اليومية. كان يصمم موازين لقياس الأشياء، ويخترع أنظمة لمعرفة مستوى الماء في الخزان دون الحاجة إلى الصعود لرؤيته. تلك المشاهد اليومية زرعت فيّ إيماناً راسخاً بقيمة "صنع الأشياء بيديك" وقوة الابتكار و الاختراع.

وعندما كبرت، نقلت هذا الشغف إلى أطفالٍ في مخيم صيفي من خلال تجهيزي لمادة "المهندس المبدع". صنعنا أذرعاً آليةً من الورق المقوى، وجسوراً من أعواد الآيس كريم, و مصعدا يدويا يعمل بالبكرات و أكثر من ذلك بكثير. رأيت في أعينهم ذالك اللمعان نفسه الذي عرفته وأنا طفلة. اليوم، يؤكد العلم أن ما رأيته لم يكن مجرد فرحة عابرة، بل تأثيرا عميقا في سيكولوجية أولئك الأطفال و تغيرا جذريا في حياتهم. و الدليل, أنني أعلم على الأقل أن أحدهم حصل مؤخرا على درجة الماجستير في الهندسة العكسية من ألمانيا... و أترك لكم الخيال لاستنتاج أين سمع عن مصطلح "هندسة عكسية" لأول مرة في حياته! و كم كان عمره حينئذ؟ 12 سنة تقريبا!!

خمسة أسباب تجعل الهندسة هديةً حقيقية لطفولتهم

1- لوّن خارج الخطوط! كيف تصنع الهندسةُ عقولاً مبدعة.

التعليم التقليدي يُعلّم الأطفال "الإجابات الصحيحة"، لكن الهندسة تُعلّمهم طرح الأسئلة. دراسة من جامعة ستانفورد (2018) وجدت أن الأطفال الذين يمارسون أنشطةً هندسيةً يصبحون أكثرَ إبداعاً في حل المشكلات. حين يصمم الطفل برجاً من المكعبات، يتعلم أن الفشل ليس نهاية، بل بدايةٌ لتجربةٍ جديدة. تعلم الهندسة لا يقتصر على القوانين الرياضية أو التصاميم المعقدة؛ بل هو منهجية تفكير تُعلّم الطفل كيفية تحليل المشكلات وإيجاد حلول عملية. في تجربتي مع الأطفال، لاحظت أنهم أصبحوا أكثر قدرة على تحويل الأفكار المجردة إلى مشاريع ملموسة. مثلاً، عندما طلبت منهم تصميم جسر من أعواد الخشب، لم يقتصروا على التقليد، بل بدأوا في اختبار مواد مختلفة لتحمل أوزان أكبر، مما يعكس تطوراً في التفكير التحليلي.

2- أنا قادر! عندما تتحول القطع الصغيرة إلى ثقة كبيرة

لا شيء يُشبه نظرةَ الطفل وهو يمسك باختراعه الأول. وفقاً للجمعية الأمريكية لعلم النفس (APA, 2020) ، المشاريع العملية تُعزز ثقةَ الأطفال بأنفسهم. طفلٌ صنع مرشح للماء يحول الماء العكر إلى ماء صالح للشرب بيديه الصغيرتين, لن يكسر قلبه الصغير أي شيء بعدها!! هذه الثقة لا تشترى بالمال، بل تُبنى بالإنجاز

3- معاً نصنع المستحيل: لماذا تُعلّمهم الهندسة التعاون؟

العالم لا يحتاج إلى عباقرة منعزلين، بل إلى فريقٍ يعمل معاً. في إحدى التجارب، طلبنا من الأطفال بناء سيارةٍ تعمل بالبالون. تعلموا أن يدَ الله واحدةٌ مع الجماعة. تقول جامعة هارفارد (2019) إن مثل هذه الأنشطة تُحسّن المهارات الاجتماعية والحركية معاً

4- احترس.. قد يصبح مهندساً: كيف تفتح الهندسة أبواب المستقبل؟

65% من الوظائف المستقبلية ستتطلب مهاراتٍ في الـ (STEM) حسب معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT, 2021 ). طفل اليوم الذي يبني روبوتاً من الليغو، قد يصمم غداً روبوتاتٍ تنقذ الأرواح.

5- السقوط لا يعني الفشل

عندما انهار جسرٌ من الخشب صنعه طفلٌ في المخيم كاد يبكى و شعر بالفشل و الاحراج.. عندما بدأت بإرجاع الأساسات حيث كانوا و تركته يكمل.. عدت لأجده ينادي: لقد أنهيته الحمدلله. الهندسة تُعلّم الصبر، وهي هديةٌ ستحميهم طوال حياتهم.

ختاما دعوني أؤكد أن الأطفال ليسوا أوعيةً نملؤها بالمعلومات، بل شموعٌ نضيئها بالخبرات. تعليمهم الهندسة يعني منحهم أدواتٍ لخلق عالمٍ أفضل. تعليم الهندسة للأطفال ليس ترفاً، بل استثمار في مستقبلهم. من خلال تجربتي الشخصية والأبحاث العلمية، يتضح أن الهندسة تُنمي الإبداع، الثقة، المهارات الحركية، الاهتمام بالعلوم، والصبر. الأهم من ذلك، أنها تُعلّم الأطفال أنهم قادرون على تغيير العالم بأيديهم وعقولهم.

لذلك، يجب على المدارس والأسر تشجيع الأنشطة الهندسية العملية منذ الصغر، لأن الطفل الذي يتعلم كيف "يخترع" اليوم، سيكون قائد الابتكار غداً.

1. Stanford University (2018). The Impact of Early Engineering Education on Creativity.

2. American Psychological Association (APA, 2020). Hands-on Projects and Self-Esteem in Children.

3. Harvard University (2019). Motor Skills and Teamwork Through Engineering Activities.

4. MIT (2021). STEM Education and Future Career Paths.