الرسالة الثالثة من رشة ملح إلى رشة فلفل.. بجبروت الجِزَم

ها أنا يا عايدة، انتظرت رسالتك التي لم تصل.. انتظرتُ ردًّا منكِ كأيّ متعوس تقليديّ – أو خايِبْ رَجا – يقفُ أمام صندوق البريد مُقلّبًا نظره في تلك البطن الخاوية الممتدة على مرأى البصر، ومخترقًا الحُجُبَ المعدنية متخيًّلا شكل ساعي البريد الذي سيمدّ يده من الطرف الآخر برسالةٍ يلقيها في صندوق البريد المنشود.

أجل، أنا نفَر محظوظ، كان والدي يصحبني معه إلى مركز البريد، وكنتُ أنال شرف إيداع الرسائل في الصندوق الأحمر، أو لدى موظف البريد نفسه – إن كانت الرسالة ثقيلة وفي حاجة لوزنٍ لتحديد عدد الطوابع المناسبة لرسوم الإرسال – كما كنتُ أنال شرف فتحِ قفل صندوق البريد بالمفتاح الصغير ذي اللسان الاسطواني الأملس – الذي يختلف عن شكل مفاتيح البيوت حادة الألسن! – والتقاط الرسائل بنفسي، وفرزها بمجرد النظر: هذه فواتير وتلك رسائل شخصية، ثم توزيعها على أهل البيت في غبطةٍ لا تضاهى.

لذلك تجدينني مُلمّة بكل هذه التفاصيل، ومتخيلةً شكل أصابعك التي أصابها شللٌ عاطفيّ منذ أكثر من أسبوع فعجزت أن تكتبَ لي ردًّا. لا عليك، في جعبتي رسالةٌ جديدة لك.. إننا في ديسمبر، وبعد 23 يوما سنستقبل عامًا جديدًا.. قرّرتُ عنكِ – أيوا أنا عندي نَفَس ديكاتوري بس مَخَدش حقّه في الدنيا – سأطلقُ على هذا العام عنوانًا يليقُ به – بالإضافة إلى الرتوش الأخرى طبعًا – لكن عنوانه الرئيس سيكون: عام الجَزْمَه!


كيف جاءتني الفكرة؟ آه! هاتي ودانك.. واسمعي:

كنتُ مفلسةً تقريبا.. لكن كما يقول المثل "أقْرَعْ ونُزَهي"، قررتُ أن أصرف آخر ما في جيبي، ولا مشكلة لديّ مع الغَيب.. ولستُ مستعجلةً لأراه. كنتُ في مردف سيتي سنتر، المول الذي بنيته طوبة طوبة تقريبًا، وعشتُ فيه أنا وزوجي أكثر مما عشنا في بيتنا! وكعادتنا في الطّواف، مررتُ بالممر المقابل لمحل عطور وماكياج مشهور، كان – كالعادة أيضًا – يذنّب اثنين من موظفيه في جناحٍ صغيرٍ أمام المحل لمطاردةِ خلق الله برشّاتِ العطر الجديد الذي يروّجون له. لأول مرة، أرى لديّ بحبوحةً من الوقت فأوافق على تجربة (الشّمّ) – أي والله يا عايدة.. شمّيت! – ثم حدّثتُ نفسي: وماله! أشتري عطر لزوجي هديّة لتغيير عطره القديم الذي يستخدمه من بداية زواجنا، وبما أنه للأسف لا يستخدم عطر فهرنهايت – الذي أعتبره عطر القدّيسين – فإن أيّ عطرٍ آخر سيكون مناسبًا. حاول المشمّماتي – موظف العطور يعني – إقناعي بتجربة النسخة النسائية من العطر أيضًا – من باب دلّعي نفسك يا شابّه – ولم أكد أنهي جملتي حتى رأيته يمدّ لي عطرًا على شكل حذاء نسائي – جزمَه حريمي يعني! – بكعبٍ عالٍ يفترض أنه مصمم لدواعي الإغراء! ثم قال لي: هذا عطر رائع جدا، واسمه (جود جيرل)،

قلت له مستنكرة وأنا أبعد العطر عن وجهي: أولا، لا أرشّ عطرًا من جزمه! ولا أسمح لأحد أن يرفع "جزمه" أمام وجهي – ما عدا أمي الغالية طبعًا – ثانيًا.. العطر الرجالي اسمه إيش؟ فأجاب مبتسمًا ابتسامةً أعرض: (باد بوي)! فصِحت: يا سلاااااااااااااام! الطاعة والأدب والأخلاق العالية للبنت، والألعبانية والصياعة المحمودة للشاب ليصطاد بوسامته ورائحة عطره البنت الخلوقة المؤدبة (التي تعدّ المطلب النهائي لأيّ شاب ألعباني قرّر أن يعقل وينسى قائمة الحسناوات اللاتي سبق وأغواهنّ ثم لفظهنّ، ليستقر أخيرًا بعد سنوات الضياع والصّياعة مع الحلوة الرّزينه أم جزمه).

توقّف المشمّماتي عن رش العطر وأصابته حالة تخشيب لثوانٍ قبل أن يقول: عفوًا! حضرتك بتشتغلي شو؟ ابتسمت – كان خاطري أقول له: ليس من شأنك، لكني أردفت: كاتبة. ضرب على جبينه: آه! لم يسبق لأحدٍ أن أبدى هذا الاعتراض من قبل، لا على شكل الحذاء/ العطر، ولا على الاسم! بالعكس، إنه محبوب ويلقى رواجًا كبيرًا لدى الجنسين معًا. قلت له مؤكدة: طبعًا هو كذلك، بغض النظر عن الرائحة المميزة، فإن الفكرة نفسها تلقى رواجًا مجتمعيًّا، والعطر لا يقدّم جديدًا بل يرسّخ الصورة النمطية للشاب والفتاة. توجّهت مع البائع إلى صندوق الدفع وعرضَ عليّ أن يحفر اسم زوجي على العلبة كذلك، فقلتُ تمام، سيكون هذا مناسبًا تمامًا لاستكمال مشروع المرحلة.. إنه لا يرشّ العطر فحسب، بل يرى انعكاسه في الرائحة، وهذا سيمنحه دفعةً إيجابية في خطواته القادمة، وكلّ واحدٍ منّا يحتاج لمثل ذلك لا شعوريًّا.

عندما خرجت من المحل كان المشمّماتي قد أعطاني علبًا ترويجية صغيرة للأخت (جود جيرل) والأخ (باد بوي)، ولكن النسخة النسائية لم تكن على شكل حذاء بل مجرد زجاجة صغيرة محترمة.

لن أكذب عليك يا عايدة، صحيح أنني أقدّس أيضًا عطر جوليا روبرتس الذي أعتبره الوحيد والأوحد، لكن عطر الجزمه هذا تخلل نخاشيشي وعشّش فيها. منذ خرج عطر جوليا روبرتس للنور، وقبل أن أشمّ رائحته حتى، قلت لأهلي: هذا العطر يناسبني، ما دام عطر جوليا، لأنني أحب روحها وشخصيتها، وبالتالي سيكون عطرها كذلك يعكس شخصيتي وروحي، وهذا ما كان.

الآن أنا في ورطة.. قررتُ أن أرسل للشركة المصنّعة لعطر الجزمه رسالة أطلب منهم فيها صنع قارورة محترمة للعطر تلبّي احتياجات المعقّدين أمثالي، وتحترم نظرتهم تجاه عطرٍ على شكل حذاء يتوجب عليّ في كلّ مرّة أقرّر استخدامه أن أرفعه إلى مستوى وجهي!! أيّ مسخرة هذه! الرأي الآخر كان يقضي بتعاملي مع الأمر وحدي، بتغليف القارورة مثلا بأي كرتونة، أو صنع غلاف مختلف يغطي الحذاء، وأنتهي من القصة. لكن بكل الأحوال أنتِ تعرفينني يا عايدة، سأرسل الرسالة في نهاية الأمر – كما سبق وأرسلت لشركة سوني أريكسون أطلب فيها منهم إضافة لون بنفسجي إلى هواتفهم لأني أحبّ هذا اللون ولم يكن موجودًا في أي نوع هواتف محمولة، وحصل وأرسلوا لي الهاتف!


حسنًا، طالت القصة ولم نصل لفكرة عام الجَزمَه. بما أنني قرّرت تغيير العطر – سأفعلها ربما في بداية السنة – فإنني في حاجة لتعديل (إعدادات المصنع) في شخصية أمل لعام 2021م، ومن بين مفردات الشعار الذي سأرفعه لهذا العام – أعمل حاليًّا على انتقاء المفردات ثم الأهداف الفرعية لاعتمادها – فإن الجَزمه تحضر هنا بقوّة باعتبارها مرادفًا لـ: (لا، اكتفيت، لن أسمح، كفى، .. وإلّا...)

كما ترين، كان عام 2020م الذي أطلقنا عليه عام (الوَفرة) – بالإضافة لمفردات أخرى في الشعار – عام وفرةٍ لك في استباحةِ وقتك نوعًا ما، والأمر نفسه حصل معي – مع محاولاتنا معًا تحجيم هذه الاستباحة لكنها بطريقةٍ أو بأخرى تغلّبت علينا والتهمت حصةً كبيرة من وقتينا كان يمكن لها أن تنتجَ مشاريع إبداعية مؤجلة لو ركّزنا في استخدام الجَزمَه مثلا!

لذلك، أدعوكِ يا عايدة لإضافة هذه المفردة إلى قائمة مفرداتك المنتقاة شعارًا للعام القادم، وإسقاط الأفعال التي تعكسها عليها، لأنّ الأمر لم يعد يحتمل إضاعةَ وقتٍ أو فُرص أكثر. وإن كان الوقتُ مهمًّا للمومساتِ ويعني المال – على مبدأ: الساعة بخمسَه جنيه والحَسّابَة بتِحسِبْ – فإنّنا نحن الكاتبات المثقفات المبدعات الأمهات العاملات الموظفات المستنزفات أَولَى باحتساب دقائق حياتنا، وحُسن استغلالها، وإيقاف استباحتها، بالطِّيب، أو الجَزمَه!


ختامًا، أنقل لك تحياتِ البنات، وقطّتي ساشا المستلقية على طاولة الكتابة حاليًا.

أمل


________________________________________________________________________________

ملاحظة1: ما رأيك في مشوارٍ إلى جبل جيس يوم الخميس – سجع – لتجديد الطاقة هناك؟ بلّغيني إن كان يناسبك ذلك للترتيب، طبعا ستصحبنا سمر وربما زينب إن سرقتها من رحلتها المكوكيّة لدبي.


ملاحظة2: وصلني ردّك متأخرًا، تخيلي يا عايدة! قرأته الآن! لذلك لن أعدّل على الرسالة، وعوضًا عن ذلك أعدكِ برسالةِ ردّ أخرى أقرب. كوني بخير.. أنتِ لستِ بخير! اكذبي على كل الناس، لا عليك! إنتِ كمان محتاجه "جَزمه"!!

رشة ملح

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات رشة ملح

تدوينات ذات صلة