"غيرنيكا لوحةٌ رمزيّة، إنّها محاولة لحلّ معضلةٍ إنسانيّة بواسطة الفن" بيكاسو

قبل شهرين من الآن، كنتُ أستعدّ لكتابةِ تدوينتي الأولى، لم أكن أعلم بأن التدوينةَ الثانية ستستغرقُ كلّ هذا المدى لكي تُكتب. هل كنتُ بطيئًا جدًا، لكي أدركَ أنّ الشعورَ بالجهوزيّةِ أمرٌ نادرُ الحدوث، والهربَ من الوحي لا يخلقُ نبيًا. اعتقدتُ في بدايةِ الأمر، أنّ ولادةَ نَصّ، أمرٌ لا يستدعي كلّ هذا التضخيم، وهذا التهويل الذي يصدعنا به الكتّاب: آلةُ كتابة، ورقةٌ، حدسٌ قويّ، والكثيرُ من المجاز. ولكنّني الآن في السابعةِ صباحًا، أستمع لِ موسيقى "Blue bayou" كأنّها المرّة الأولى، وأدركَ أنّني كنتُ مخطئًا، مخطئًا جدًا.


لديّ الكثيرُ لأكتبَ عنه، ولكن من أين أبدأ، تلكَ هي المعضلة. قلتها مرارًا: أخشى النهايات، كما أخشى هذيانَ البداية. لذا على من همّ مثلي، أن يتدرّبوا جيدًا على الانتظار، أو يُتقنوا فنّ التخلّي عمّا ينخرُ في عظامهم. ولكنّ شخصًا بِجنوني، يمكن لغيمةٍ ضلّت مسعاها في الهطول أن تؤرّقَه، قد يفضّلُ الانتظارَ على الغياب، والحضورَ على العدم.


لا أدركُ سرَّ هذا التمسّكِ بهذا النظام الحياتيّ الجديد، بالنسبةِ لشخصٍ كان النومُ متأخرًا دينًا بالنسبة له، الاستيقاظُ في الرابعة والنصف صباحًا أمرٌ قد يدعو للشفقة، ولكنّه يُشعرني بالنشوة، كأنّني أُخلَقُ من جديد، لم أعهد ميلادَ الصبحِ بين يديّ السماء منذُ سنوات، ربما سأكتبُ عن هذا لاحقًا في تدوينةٍ مستقلة.


احتفظتُ بصورةٍ للوحةٍ فنّية تُدعى "Guernica" ل بابلو بيكاسو، ذوقي الفنّي بوهيمي ورديء بعضَ الشيء، أعترف، ولكنّ للمرّةِ الأولى أشعرُ بهذا الاندفاع لفهمِ ما ترمي إليه لوحةٌ فنّية، حتّى شعرتُ بالواجب تجاهها. الإطار العام يُوحي أنّها ورقةُ نعيْ، بيكاسو يبعثُ إلينا رسالةً، محاولًا تجريدَنا من ذواتنا " إنّ كلّ ما نحبّه سوف يموت".


أربعةُ نساء يحملنَ عبءَ هذا العالم، يخبّئنَ معضلةً انسانيّةً كاملةً في حناجرهنّ، فيصرخن، والشاهدُ على الصراخ، نحن. غيرنيكا، أشبهُ بأسطورةٍ ومأساةٍ إغريقيّة، بأبعادها الثلاثة: الحصان، الثور، الفارس. الحصانُ، الشعبُ الضحية، الحاضرُ دونَ كلّ موت، لا تخمدهُ عجلةُ الذبح ولا سطوةَ الماردِ الخفيّ. الثور، رأسُ العدوّ مطلًّا يشهدُ رعبه بكبرياء الوحش، متفرّسًا وجوهَ كلّ المحدّقين فيه. الفارسُ، مترجّلًا عن حصانهِ، سيفهُ مشطورٌ إلى نصفين، وكذلك جسده.


وهنالكَ في الركن البعيد، طائرٌ يُذبح، على شاكلةِ ما يجري في الساحة، ولكنّ القاتلَ هذه المرة، مخفيّ عن مسرحِ الجريمة، أداةُ الجريمةِ واضحة، وعدا ذلك من الألم مرئيٌّ للغاية، والقاتلُ نعرفهُ جيّدًا. وفي الركنِ الآخر، الركنُ المغيّب تمامًا، مصدرٌ للضوء ورقعةُ نور: مصباحٌ كهربائي، في هيئة الساخرِ من تقهقرِ البشرية في عصرِ الحضارة والأزمة الانسانيّة. قنديلُ زيتٍ في يدِ المرأة الشاهد يرمزُ لذروةِ الهمجيّة. ورقعة نورٍ منبعثةٍ في هُوّةِ جدار، تحبسُ الأمل، وتصبغُ الوجوهَ بشحوب، شحوبُ الموت.


ما زلتُ أذكرُ تلكَ المشاهد في رأسي، كأنّها تحدثُ الآن، أعادت لي اللوحةُ فيضان من الذكريات في دهشةٍ مستحيلة، شعرتُ بأنّني أُقطّعُ لأشلاء، كنتُ أريدُ أن أصرخ: ذلكَ نحن!، المرأةُ حاملةً طفلها المذبوحَ بعارِ الإنسانيّة، والأخرى المحترقة بنارِ الثأرِ من الحياة.


وفي مشهدٍ مغيبٍ تمامًا تُطلُّ أقحوانةُ أمل، تقول: إنّ البراءةَ سوفَ تنتصرُ على الجريمة، الانتصار سوفَ يجتاحُ الانكسار، والانبعاث مصيرُ كلّ تلكَ القطعِ المبعثرة، العنقاءُ المسخ، ستستعيدُ رمادَها من لحمها المتحطّب وستُبعثُ من جديد.


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات أحمد السّوق

تدوينات ذات صلة