رواية جد رائعة للكاتبة والأديبة نرمين نحمد الله؛ تحت عنوان "سينابون "
أنهيت قرائتي لرواية " سينابون" لنرمين نحمد الله بجزئيها الأول والثاني؛ انتهت سطورها ولكن أثرها لا يزال عالقا بإحساسي وفؤادي. رواية جرتني نحو فيض من المشاعر وسيل من الأفكار المتداخلة؛ مشاعر تراكبت بين حب وحنان ؛حقد وكراهية وطغيان؛ انتقلت بين تواضع يكاد يذيبني رحمة؛ وافتخار واستعلاء يقذف بي بعيدا عن عالم البشر.
نرمين نحمد الله؛ أقنعتني حقا بفلسفتها الخاصة أن البشر جميعا يشبهون حلوى" السينابون " ؛ دوائر متداخلة تبدأ من مركز عميق وتظل تدور حلزونيا مع مدارات القدر. فعلا نحن كذلك ؛ دوائر متعددة كل دائرة تحمل عالما من الأحاسيس والأحزان والسعادات ؛ عالم من التناقض والاضطرابات؛ كل أخيرة تبوح بما لا نستطيع نحن في العلن؛ ظاهرنا غير باطننا؛ ما نعلنه أمام البشر ليس دائما حقيقيا؛ قوتنا المعهودة؛ ابتسامتنا الذابلة؛ عملنا اللامنتهي؛ ثقتنا بنفسنا؛ وأخيرا حبنا. ذلك الحب الذي جر ياسمين ويامن نحو قاع سحيق واختبرهم أشد اختبارات. الحب الذي ربط بين هدوء ورزانة مروان وطيش وتهور داليا. الحب الذي شق طريقه من عابد الملتحي القائم لله للجين السارقة والمخادعة. الحب الذي أخرج نشوى من خيالها وأنزلها للواقع لتعيش مع إسلام وريما قصة حب أغرب من الغرابة نفسها. الحب الذي أعاد تشكيل زين الفايد من نسر كاسر ومتكبر جريح إلى عاشق مجنون حنون ومتواضع ليجمعه مع ياقوت خضراء العينين المعاندة واللطيفة؛ ليشكلا في الأخير مزيجا خطيرا من هدوء وصخب ؛ من تواضع واستعلاء ومن حنان وقسوة. ذلك الحب الذي جمعهم كلهم ليصبر كل منهم على الآخر حتى يصل لعمق دوائره ويرى حقيقته الصارخة دون تزييف أو إدعاء. محظوظون هم لأنهم صبروا. وخاسرون من لم يحاولوا من الأساس أن ينظروا لجوهر البشر الآخرين ليفهموهم ويتضح المعنى؛ كأم رائد التي انكمشت في دائرتها وأحاطت نفسها بالشوك حتى أصبحت لا ترى إلى الحقد والشوك في كل من يحيط بها؛ حتى ضعفت وشاءت أن تدمر حياة ابنها؛ لكن هيهات؛ الشوك الذي نثرته لابنها شاءت الأقدار أن تتجرعه وقد كان أشد مرارة مما توقعت؛ مرارة حقدها وكرهها؛ ومرارة خيبتها؛ لتموت وحيدة في شقتها ليومين متتابعين حبيسة معتقداتها البائسة .
"سينابون" حلوى الحقيقة الدفينة في دواخلنا
رواية " سينابون" لم تختزل البشر في شكل دوائر مع مركز عميق فقط؛ بل نبشت في الخواطر ولامست القلوب بتنهيدات طاغية وردود هامسة ونظرات طويلة؛ مع كل كلمة تنطقها؛ مع كل سطر تقرأه وكل جزء تنهيه ؛ تجد نفسك ودون وعي منك تتقمص الشخصية وتحاول فهمها وتحس إحساسها وترد انفعالاتها وتبكي دموعها وتتنفس هواءها. تدرس تعاليم الشخصية وتكتشف في ذات الآن ذاتك وشخصيتك الخفية؛ تكتشف مواضع في شخصك لم تكن تعلم بوجودها ولا تحلم حتى بوجودها؛ وتكتسب أيضا منهجية لتحليل الشخصيات والأحداث المتزامنة معك.
حكايات "سينابون" هي صوت البيوت؛ ونبض الشوارع ؛ هي أحاسيس نساء ودموع رجال ؛ هي همسات القلوب الراضية بعد طول صرخات الصخب ؛ ولذة الجبر الذي جاء بعد طول كسر .... هي تنهيدة ارتياح؛ ونقطة فرح وضعت أخيرا في منتهى سطر حزن طويل . حكايات حتى وإن انتهت سطورها في الرواية؛ لا تنتهي واقعيا ؛ ولا يكون لها أن تنتهي ؛ لأنها ان انتهت فعلا لن يبقى للحياة معنى. لذلك أنا أؤكد أن سينابون لم ولن تنتهي . وعند الخاطر الأخير فإننا سينابون ؛ هكذا نحن البشر ؛ مزيج من مذاق القرفة اللاذع؛ والصوص الحلو ؛ والعجين المتخمر بماء الماضي .
التعليقات