وأنت تصل للحظة، لعمر، لمرحلة، لقد سئمت كل هذا السيناريو الهش.

لا أعلم أي أحداث تغير الإنسان إلى هذا الحد، كيف من الممكن في صباح ما أن تستيقظ وتنظر لنفسك بالمرآة وترى شيئا آخرا غير نفسك التي عهدتها..

لا أعلم في أي منعطف تبدل حالك حينها بهذا القدر، كيف أصبحت ترى الوجود عبثيا ولا جدوى من كل شيء، لكن يبدو أن الطريق الطويل الذي كنت تسير به أوصلك إلى هنا.

أفكر، كيف يتحول الإنسان من شعلة غاضبة حالمة ممتلئة بالشغف والطموح والأمل .. إلى روح لا مبالية، فاقدة المعنى في كل شيء.. لا شيء يبهر الروح بعد الآن ..

هذا لا يعني أنك فشلت أو أعلنت إضرابك عن الحياة، ولا يعني أنك تشعر باكتئاب أو حزن.. بل بالعكس، حياتك تسير بطريقة طبيعية، ما زلت تأكل، تشرب، تعمل، تسدد فواتيرك، تخرج مع أصدقائك، تشاهد أفلامك المفضلة. لكن، كأنه تم إرغامك على نزع النظارات الوردية في مرحلة ما ورؤية كل شيء بطريقة مجردة ومحايدة وموضوعية، دون إضافة أي بريق أو ألوان على الأشياء… وكأن ما عاد شيء ينير روحك أو يجعل قلبك يخفق بغباء، أو يجعل روحك ترقص.

لم تعد تنشر صورك وإرفاقها باقتباسات إيجابية، بت تقول "ما هذا السخف"..

لم تعد تشارك الجميع خيباتك ولا حتى إنجازاتك، تكتفي بالاحتفاظ بها لنفسك، فماذا يعني إن كتبت على "فيسبوك" مثلا ..

"كان شرفا لي أن أكون معكم هنا .."

"سعيد بأني نجحت بهذا.. "

"فخور بما وصلت إليه وحققته اليوم بذلك.. "

يبدو لك الأمر مجرد سخافة.. لماذا علي أن أشارك ذلك، ولماذا علي أن أحتفل في كل مرة أقوم بها بشيء جديد، لم تعد تهتم لتصفيق الأقرباء ولا الغرباء .. يكفي أنك تشعر بأنك "بأمان مع نفسك".

يكفي أنك تنجح لذاتك، تؤمن حياتها، تكون سندا لها، يكفي أنها بأمان هنا.

كنت في بداية شبابك، تسعى لنشر نفسك في كل مكان، أريد إظهار ذاتي بكل يأس، كل صورة لي عليها أن تكون في الواجهة، كل كلمة تكتبها وكل فكرة تفكر بها، فلنضعها أمام العالم، واليوم، يُرسل لك "إنستغرام" رسالة.. يقول لك "ما بك؟ أين أنت؟ لماذا لا تستخدمني؟ إن نشاطك في هذا التطبيق يوميا لا يتعدى 3 دقائق، لماذا لا تنشر يوميا صورك؟ لماذا لا تشارك العالم نفسك؟ لماذا لا تعمل على زيادة متابعينك.. سنعمل على إخفائك وسنأخذ منك كرسيك إن استمريت على هذا الحال، ستمسح الخوارزمية وجودك من ذاكرتها، ستتبخر من ذاكرة المستخدمين، ستفنى هنا على منصات التواصل الاجتماعي، احذر!"

وأنت تضحك، لا يهم .. ما الفائدة أن أكون في تطبيق كلنا ندّعي به أننا الأجمل والأفضل والأنجح بشكل بائس يائس يجعلنا مزريين..

لا أريد أن أتعامل مع شرور الإنسان، ولا أريد لهم أن يخترقوا سلامي، لا أريد أن أسمع أي تعليقات إيجابية أو انتقادات تعكر صفو يومي، لا على صوري، ولا على هندامي، ولا على كتاباتي، ولا على عملي وحياتي..

أريدني أنا كما أنا مع نفسي وسلامي.

حتى أنك لم تعد تسعى لحضور مؤتمرات، ولا لإبراز نفسك في أي مكان،

أنت الذي كنت قبل 5 سنوات تفرض نفسك بين كبار وحيتان مهنتك، أنت الذي كنت تنحت الصخر لتكون بينهم وتتعرف عليهم، كانوا يقولون لك بحب ومفاجأة واستغراب.. "من أنت يا فتاة؟" "ماذا تفعلين هنا بين الكبار"

ولكن اليوم كأن كل شيء أصبح عبئا ثقيلا على روحك، كل شيء مجرد إدعاء وتمثيل أنت لا تحتاجه.. فتفضل الاعتذار عن الحضور أو عدم الاعتذار، أو عدم السعي أساسا لأن تكون ضمن أي حدث.. بل تفضل أن تبقى مع نفسك، في المنزل أو أن تسير مع روحك وحدك، أن تضع سماعاتك وتغرق في موسيقى تحبها، وتهرب معها من عالم مُرهق.

تقلب بهاتفك لدقائق، تنظر إلى رسائل من غرباء وأصدقاء يطلبون مواعدتك، أو مجرد اللقاء، أو شرب فنجان قهوة.

في أولى أيام الشباب، كان هناك دم متدفق وأمل وحب لمعرفة الناس، وكسب المزيد من الأصدقاء، وتعزيز علاقتك مع الرفاق، يعني، تفكر "لما لا .. العالم واسع، فلنكتشفه ونكتشف الناس أكثر"

أما الآن.. بت تقرأ الرسائل وتتجاهلها، كأنك لم ترها، لماذا سأقابل غرباء.. ولماذا سأحاول التعرف عليهم أكثر، لا أريد معرفتهم ولا رغبة لدي للتأنق والذهاب لسماع قصص حياتهم، سيحاولون بذل جهود كبيرة بطريقة مزرية للتمثيل وإدعاء الطيبة وحسن الأخلاق والنجاح وأن حياتهم على ما يرام، وهم غالبا يعيشون في فوضى عارمة.. بت تستطيع تمييز محاولاتهم البائسة في إخفاء عيوبهم ونقاط ضعفهم، ومخاوفهم، وكبواتهم وعقدهم النفسية.. لماذا علي أن أذهب لأحضر "سركا اجتماعيا" وأشارك به.. وأنا ماذا سأفعل معهم؟ أخبرهم عن لوني المفضل، وبرجي، وكيف وصلت بحياتي إلى هنا، وأكثر الأشياء التي أحب أن أفعلها، وسأرى على وجوههم تعابير مزيفة بإدعائهم بالاهتمام بكل ما أقوله.. ثم لاحقا، سيكتشفون بأني لست مهنتي، لست شهادتي، ولست صورتي، لست دمية، لست ما يتوقعون عني، بل أنا إنسان غضبه سيء جدا، ولدي من المخاوف والقلق الكثير، فأنا إنسانة طبيعية، أضحك كثيرا وأبكي أيضا كثيرا، أحب الخروج والسفر كثيرا، وأحب أن أبقى في المنزل أسبوع كامل لوحدي أيضا بعد ذلك، لدي من الحنان والحب ما يكفي كونا بأكمله، ولدي ما يكفي من القلق والغضب لإفزاع مدينة بأكملها.

وأنت تصل للحظة، لعمر، لمرحلة، لقد سئمت كل هذا السيناريو الهش.


المهم، يقولون ما زلت شابة وفي أول عمري..

وأنا أضحك، أي أول عمر هذا .. لقد شارفت على الثلاثين..

أنا في منتصف عمري، وهذا ما يقوله لي حدسي..

ولا أعلم إن كان الإنسان في منتصف عمره يفقد شغفه، أو يصبو نحو سلامه.. هل هذا استسلام ورفع للراية البيضاء أم رغبة من الإنسان في أن يتكور على ذاته من جديد،

أن يتحول الإنسان لشخص يرى في كل شيء "سخف وحماقة"، أن لا يبالي بأي شيء بعد الآن، هل هذا من شيم الوعي والإدراك .. أم أن الروح تشيخ وتكبر قبل أن يشيخ الجسد.

ربا عياش

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات ربا عياش

تدوينات ذات صلة