إنني اليوم أستطيع رؤية كل ما تعذر عليّ رؤيته في سنواتي الماضية ..

إنني اليوم أستطيع رؤية كل ما تعذر عليّ رؤيته في سنواتي الماضية، فما أصدق البصيرة ساعة الدنو من الموت! إنني اليوم أجد الحياة على حقيقتها، بعد خمس وسبعين سنة من العدو وراء سبل العيش، أكتشفتُ انني أفنيت عمري كله هباءا، إنني الآن أكاد أرى ملك الموت يقترب مني ويهم ليقبض روحي المتعبة، ثم يتردد قليلا، تأخذه الشفقة بي فينظر إليّ نظرة المحب المغلوب على أمره، دع عنك القلق أيها الملك الكريم، هلم إليّ الآن، اليوم وليس غداً، اقبض روحي الآن وأرحها من عذابات الحياة ومصائب القَدَر، وتلك السقَطات التي أرهقتها وافسدت عليها عيشها.. إنني الآن أستطيع رؤية كل ما مضى من سنوات عمري، عمري الذي أفنيته كله في الشقاء، والركض وراء كل شيء، ولم أجنِ من هذا كله أي شيء يُذكَر.

نسيت طوال تلك الرحلة التي خضتُها وحدي أن أحيا، جمعت المال دون أن أشعر بالغبطة، لم أشعر قط بقيمته، ثم أنفقته كله في شراء الأدوية وإجراء العمليات الجراحية، التي لن تزيد من عمري المكتوب لحظة واحدة.

أقول أن حياتي كانت معركة، خضتُها وحيداً بلا زوجة أو أطفال، خضتُ أغلب سنواتها في الأسفار والمؤتمرات الصحفية، وبعضها الآخر في المعتقلات والسجون، سجين رأي معتداً برأيه، كنت مغروراً منساقاً وراء الفراغ واللاشيء دون أن أدري، خرجتُ من عباءة أبي المُزارع، وأمسكتُ بالورقة والقلم، عشقتُ الأدب والشعر في سنوات طفولتي ومراهقتي، وبعد نجاحي في الثانوية العامة دخلتُ كلية الإعلام، فكان انتقالي من القرية إلى القاهرة نقلة كبرى، بل كانت لحظات السعادة مُسكِرة، غيَّبَت عقلي حتى أخطأتُ تقدير العديد من الأمور، أعجبَتني مسألة الصحافة، وكنتُ أطرب لكوني طالباً بكلية الإعلام بجامعة القاهرة، كنتُ ألهث وراء أصحاب الرأي والنفوذ، انخرطتُ في كتابة المقالات وقراءة الكتب، ثم انخرطتُ في العمل السياسي ووجدتُني أتشرَب مبادئ شديدة البعد عن واقع المجتمع، وأنادي بها، كنت طائشاً ومندفعاً، وكنتُ أشعر أن قلمي سلاحي، لم أكن أعلم أنني أملُك في الحقيقة سلاحاً فاسداً، أول رصاصاته كانت مصوّبة منذ البداية إلىّ وحدي، دون أن أردي، أودى سلاحي بي إلى عدة سجون على فترات متباعدة، كنتُ أُسجَن ثم أخرج بعد بضع سنوات ثم سرعان ما أعود إلى السجن من جديد، صحفي جريء لا يجد في تعصُبه لرأيه أي مشكلة، يجد نفسه دائماً على صواب ولا يتراجع أمام توسلات أمه وأبيه.

وكانت حياتي خارج السجون غير مستقرة، أشبه ما تكون بالحياة على كف عفريت، كان أكبر همي أن أكبُر في عملي وأتدرج في المناصب، مناصب مرموقة، أضافَت لي المال والشهرة وبعض النفوذ في فترات، ثم مضايقات وسنوات حبس إضافية في فترات أخرى، انتابتني أمراض القلب والسكري.

طوال عمري وأنا أجري وألهث، تارة وراء الأخبار، وأخرى وراء المال، ثم الشهرة الواسعة والعلاقات، ثم وجدتُني محاطاً بعد وقت قصير بدائرة معارف هائلة، وبالعديد من أصحاب المناصب والنفوذ، والأمراض أيضاً، كلنا، بنو آدم، مرضى! تلك الحقيقة التي لا يمكن لأحد تكذيبها، فأحدهم إن لم يكُن مصاباً بأمراض العظَمة والغرور، فلابد أنه مريضاً بالضعف والهوان، إما عدوانياً أو مغلوب على أمره، وفي الحالتين هو مريض.

إنني اليوم أستطيع رؤية كل ما تعذر عليّ رؤيته في سنواتي الماضية، فلا غشاء يعمي بصيرتي، ولا تعصب يضللني عن الحقائق التي نادراً ما كنت أدركها.. حتى إنني أكاد بالفعل أن أجد ملك الموت يقترب، لعله ينتظر أن أغفو قليلاً أو ينسدل جفنا عينيّ للحظة أو يطرفا، فيقبض روحي في غفلة مني رحمة بي ورفقاً، كي لا أهلع أو أضطرب.. لا تخش شيئا أيها الملك، إنني أتعجل تلك اللحظة منذ سنوات طوال، وأتعجلها اليوم أكثر من أي وقت مضى، وأخاف أن أسعى إليها بأن أنهي حياتي بيدي، فأشقَى في حياتي الأخرى كما عشتُ في دنياي عيش الأشقياء، ماذا تنتظر أيها الملك، لا تطل عليّ الانتظار، أيها الملك الكريم، ادنُ مني الآن، هيا اقترب ..


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

رائع ... بالتوفيق

إقرأ المزيد من تدوينات زهراء محمد رضا

تدوينات ذات صلة