عندما يرحل الأول يليه الثاني فالثالث..فإنك ستعتاد الأمر..ستتجاوز سريعا..وتحزن قليلا..ولن تفكر كثيرا لكنك حتما لن تعود الشخص الذي كنته.
صبري عبداللطيف إنه الموظف الحساس الذي يراعي مشاعر كل نملة في جحر ما في هذا المبنى,إنه الرجل الذكي سريع البديهة,والموظف المثالي الذي يهب كل وقته لعمله,ووقت فراغه لا يتحرّج أبداً في أن يمنحه لصديق يحتاج لمساعدة,أو زيارة هنا أو هناك لأقاربه,أو القدوم للعمل مكان زميل أو زميلة يمرون بضائقة ما.صبري هو الرجل الذي لا يمكن أن تكرهه أبداً مهما حدث,تتفق معه أو تختلف لكنك تظل تحبه,لا يتأخر عنك أبداً وقتما أردته,ولن يفكر مطلقاً قبل أن يهبك ما في يديه إن أردته,إننا هنا أحياناً نتحرّج في أن نطلب منه شيئاً لأننا نعلم جيداً أنه لن يرفض.نحن هنا في العمل أسرة صبري لأنه تقريباً بلا أسرة باستثناء بعض الأقرباء,هنا العمل حيث السرور بالنسبة له,حيث الأسرة بالنسبة له,لأنه متى يعود لبيته ليلاً فإنه يعود الرجل الذي لا يملك سبباً واحداً ليشعر بالسعادة.
صبري قد تجرحه الكلمات البسيطة وذلك لأنه يراعي كلماته جيداً,قد يغضب من الاستعلاء وذلك لأنه شديد التواضع,يزعجه الغباء لأنه لا يستطيع التعامل معه.برغم كل مميزاته هو ليس سعيداً، وبرغم كل هؤلاء الناس حوله ممن يحبونه لا يزال وحيداً، وبرغم كل هذا الضحك الذي يبثه في المكان الذي يتواجد به فهو أشد الناس تعاسة وحزناً، لا تسألني كيف عرفت كل ذلك، إنه ذلك الرجل الذي لا يبدو عليه شئ سوى الهدوء لكن عينيه دائماً… دائماً تقولان غير ذلك.
إنه صبري. ها هو يَهِمُّ بالرحيل، سأعرفك عليه حالاً…. لحظة واحدة يا أكرم من فضلك فصبري لا يبدو بخير._صبري.. صبري!_أرجوك يا محمد اتركني وشأني الآن من فضلك._كيف أتركك وشأنك، إنك لا تبدو بخير مطلقاً؟!_أنا بخير صدقني._إن مظهرك يقول بأن ما حدث معك ليس بأقل من مصيبة._لا تبالغ يا محمد إنه مجرد خذلان جديد سأضيفه للقائمة.. خيبة جديدة يمكن تجاوزها كما حدث من قبل.يجب أن نتحدث يا صبري أولاً، يجب أن تهدأ قبل أن تذهب لأي مكان ويراك أحد بهذا الشكل، إنك تبدو وكأن أحزان الدنيا قد كُتبت عليك، وخُلقت لأجلك.
_دعني أذهب الآن يا محمد وسنتكلم غداً .
_ألن تأخذ إجازة غداً؟!
_وهل هناك داع لإجازة؟!
_الخذلان الذي حدثتني عنه، عفواً يا صبري لكنك لا تبدو…..
_لا عليك الأمر لا يستغرق أكثر من ليلة.. ما هو إلا خذلان بعد خذلان، وخيبة تلو أخرى حتى تعتاد الأمر، وستكف عن الرثاء لنفسك، وستعرف بالضبط ما يجب عليك فعله._قل لي ما الذي تفعله إذن بعد كل خذلان.
_أشعر أن جفناي يزنان كقطيع ماموث، وأجدني بحاجة شديدة إلى النوم.
_ألا يوجد من يحتويك؟!
سريري، سريري يحتويني.. دائماً يفعل ذلك.
_وبعد أن تنام؟!
_أنام كثيرا ثم أستيقظ لأصلي، أصلي كثيراً، أكثر من أي وقت آخر... حتى أعود قريبا مما كنت عليه.
_ألا تعود كما كنت؟!
_لا شئ يعود أبداً كما كان، وإلا لبقينا كما كنا منذ ولادتنا.. أنقياء،
لكن الخيبات والخذلان يتركا صدوعا في أرواحنا لا تلتئم بسرعة كما نظن، وإن الَتئمت تبقى بعض ندوبها.
_أخبرني عن الخذلان يا صبري.
_إنه يجعل الألوان تبهت من حولك شيئاً فشيئاً.
_أيّ ألوان تقصد؟!
_الشعور.. ألوان الشعور تبهت، الضحك والسعادة، البكاء والحزن، الفرح، الحماس، الغضب وكل شعور آخر يبهت حتى إنك في أسعد الأوقات بالكاد تبتسم بجانب فمك، وفي أحلكها تستجلب الدمع من عينيك فلا ينزل.. ستكون سعيد الحظ لو مت قبل أن تبهت مشاعرك كليّاً، وتصير كخشبة لا تحرك ساكناً وإن احترقت.
_رفقاً بنفسك يا صبري.
_صدقني الحياة ليس فيها سوى الخذلان، كأنها قد خُلقت لتقول لك:أتظن أن الأمور ستسير وفق هواك أيها الأحمق؟!، ثم تمضي وهي تبتسم وتخرج لسانها لك في شماته، إنها دائرة مفرغة تحاول مستميتاً التملص منها دون فائدة.. يجب أن تعتاد الأمر وإلا سيصيبك الخبال، أو ستكفر بكل ما تعتقد.. الحب.. الأمل.. الرجاء.. الغد الأفضل.. ستكفر بالحياة ذاتها.
_عندما كنت أسمع كلمة خذلان كنت أعتقد أن الأمر سيمرّ بالشاي الثقيل ومجموعة أغاني للفنان جورج وسوف أو آمال ماهر، مع السهر ومراقبة القمر والنجوم، لكنه لا يبدو كذلك.
_بالعكس يا محمد، هو كذلك بالفعل لكن مع بعض المحظوظين الذين لم أنتمِ إليهم مطلقاً.
_هوّن عليك يا صبري إنها فقط مجرد هواجس، وستُطرد بعد قليل. الأمل موجود، ولابد من تقلبات في حياتنا لنستشعر السعادة، والإثارة، والتجدد، لنستمتع، ونتعلم، ستمر تلك الفترة.. لا تقلق.
_لست أرجو سوى ذلك.. صدقني لست أرجو سوى أن تمر تلك الفترة،وأن ينتهي ما أشعر به الآن.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات