وهل نسمي العمل الدرامي فنًا إن كان مبتذلًا بلا قيمة أو ذا أثر بائن الضرر والخراب؟!

يسيرُ وحيدًا في متاهة أفكارنا المختلطة، يتجولُ ليلًا ونهارًا باحثًا ربما عن إجابة، أو إشارة، أو المزيد..قد يكون من محبي الطرق المستقيمة والإجابة الواحدة التي لا تقبل النفي أو التشكيك، وقد يكون من محبي الالتفافات وتعدد وجهات النظر..إنه السؤال! هو كحبة المطر بعد طول جفاف تسقط على التربة المتشققة الهشة فتخرقها، وتهزها فتستفيق ثم تُثار وتتطلع للمزيد..المزيد من التفكير وإعمال العقل، والمزيد من التأمل والرؤى.

وفي عالم الأدب والفن كثيرًا ما تسمع تلك العبارة: "لا صحيح أو خطأ هنا بل هي وجهات نظر مختلفة" إنهم إذن يتحدثون عن النوع الثاني من الأسئلة؛ الذي يحب الالتفافات وتعدد وجهات النظر، ومن الأسئلة التي كثُر عليها الجدل في ذلك العالم هذا السؤال: هل نكتب أو نرسم أو نعرض ما يمثل الواقع، أم ما نريد أن يكون عليه الواقع؟ هل نعرض ما يعبر عن القارئ أو المشاهد، أم ما يدفعه للتغير والتغيير للأفضل؟ وسأحصر الكلام هنا عن المسلسلات التليفزيونية..

يرى بعض الناس أن التعبير عن المجتمع أكثر أهمية؛ أن ننقل صورة فئة من المجتمع لبقيته فيفهم مشكلاته ويسعى في حلِّها ويتفهم طريقته وأسلوب حياته، وهم أيضًا يضمنون بذلك نسبة مشاهدة كبيرة حيث ستنجذب الفئة التي يعبر عنها المسلسل له وستشاهده؛ ومن ذلك المسلسلات التي تركز على أولاد الحارة أو الطبقة العليا من المجتمع أو فئة المجرمين وتجار المخدرات.

أما الطائفة الأخرى فتؤيد رسم الصورة الفاضلة للمجتمع المراد والقيم العليا والعالم الخيالي مثل: تصويرهم المدينة الفاضلة والمستقبل والعوالم السفلية أو الفضائية وهذا ليس الاتجاه الأكثر انتشارًا في الدراما العربية وخاصة المصرية.

ودعوني أقتدي بالنوع الثاني من الأسئلة وأتخذ من منهجه لي منهجًا، فسأعرض وجهة نظري في هذا الأمر طارحةً سؤالًا آخر؛ أيهم سيفيد المجتمع أكثر عرض صورته أم حثه على القيم والمبادئ؟ لا شك أن الفن والدراما لا يمكن أن يسيرا في اتجاهٍ واحد بسبب اختلاف أذواق المتلقين، لذلك أرى أن المجتمع في حاجة لعرض صوته واتجاهاته كما هو في حاجة للحث على القيم والمبادئ والتزام القوانين؛ فمقولة أن هذا لن يثير إعجاب المتلقي غير مقنعة بالمرة لأن الدراما لها سحرٌ وتأثيرٌ في المتلقي بدرجة كبيرة تجعله يقلدها ويتخذ منها قدوة، فالشعور اللاواعي للمجتمع يجعله يتجه به نحو الاتجاه الذي تعرضه الدراما أيًا كان، وهذا مثبتٌ بالدلائل والبراهين الكثيرة التي يمكن لأيٍّ منا عرضها بسهولة، ولنضربْ على ذلك عدة أمثلة: أولًا: المسرحيتان اللتان دمرتا المجتمع في وقتهما؛ إحداهما دمرت العائلة والأخرى شوهت صورة المعلم-وإن كانتا تدعوان في نهايتهما إلى توقير الأب وترابط العائلة، وتوقير المعلم لكن الشباب تأثروا بتصرفات الممثلين الخاطئة واتبعوها-ثانيًا: الأسطورة أو ال"برنس"الذي أصبح قدوة جميع الشباب، ففئة كبيرة من المجتمع تسير وراء البطل في المسلسل دون تبين أو وعي!

لذلك أنا من مؤيدي الفن الواقعي المشوب بالحس الأخلاقي أي الذي عندما يعبر عن المجتمع يركز على مزاياه أو على الأقل لا يصدر لي أن الشرير أو"البلطجي"هو البطل الرائع الذي يثير الجميع، أو يبرر أخطاء الأشخاص نظرًا لظروفهم ويسوغ فعل الشر وارتكاب الجرائم انطلاقًا من المبدأ الفاسد: "الغاية تبرر الوسيلة"، وعندما يوجه المجتمع نحو القيم والمبادئ يعرض ذلك في إطار مشكلات المجتمع، وكيف يمكنه السير على الطريق المستقيم في ظل ما يواجهه من فقر أو قهر أو ظلم أو فساد مجتمعي، أؤيد الفن الذي يتناول قضية العروبة ومأساة البلاد العربية التي يتلاعب بها العدو، ويحث الحكومات والمنوطين باتخاذ القرار على عدم التناسي أو التغافل، أؤيد الفن الذي يثق في المتلقي وفي عقليته فلا يسرب له كل مبتذل وتافه ليلهيه فقط بل يعرض له ما يفيده ويحثه على الترقي أو التغيير من نفسه وإصلاح المجتمع.

أظن أن هذا ما يحتاجه المجتمع؛ فما النفع العائد على المجتمع عندما نكرر عرض القصة نفسها في كل مسلسل وكل سنة: قصة البطل القوي الذي لا يُقهر ويفتك بأعدائه، أو قصة الأخوة الذين يقطعون أواصر الود ويُحِلون محلها العداء والضغينة؛ الأخوة الذين يقتلون بعضهم أو لا يأبهون إلا بالميراث، لا أظن أن هذه الأعمال ستوصلنا إلا إلى تدمير العلاقات الأسرية والعائلية ومن ثم تدمير المجتمع.

وهل نسمي العمل الدرامي فنًا إن كان مبتذلًا بلا قيمة أو ذا أثر بائن الضرر والخراب؟! لا أظن ذلك، ليست هذه الأعمال إلا أموالًا بالية ووقتًا ضائعًا وعملًا محبطًا ووبالًا على الجميع.

من كان فيه بقية عقل أو وعي أو اهتمام فليفكر قبل أن يخون عهد الهبة التي أعطاها الله له، قبل أن يؤلف عملًا ذا وبال على المجتمع، أو يشترك فيما سيضيع فيه وقته، أو ينفق ماله في عملٍ محبط، أو يشاهد عرضًا مبتذلًا أو بلا قيمة حقيقية. لا تغزو المجتمع بطوفانٍ من أعمالٍ لا تتوقعون مدى ضررها به، وفكروا مليًا قبل الإقدام على ذلك، فكروا في اليوم الذي ستحصدون فيه نتاج زرعكم..وسترونه جليًا في تفاصيل مجتمعكم.

ربما سيظل هذا السؤال: "هل نعبر عن الواقع أم نعرض ما نحب أن يكون عليه الواقع؟" متجولًا متطلعًا للمزيد من وجهات النظر، لكننا إن نظرنا إلى عاقبة كلٍ من الاختيارين وسألنا السؤال بطريقةٍ أخرى فقلنا: "هل نفتك بكل ما تبقى من أملٍ وقيم في المجتمع أم نُبقي عليه؟"ربما عندها سيكون سؤالًا منتظرًا لإجابة واحدة وتطبيقٍ واحد، فبعض الأسئلة تتضمن في أعماقها أسئلة أخرى توضح مدلولاتها وتوصلها إلى غايتها بدلًا من أن تظل سائرة متجولة حائرة أبد الدهر.

آلاء ناصر

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

أسلوب رائع وطرح مختلف

إقرأ المزيد من تدوينات آلاء ناصر

تدوينات ذات صلة