و إن كان القلب أجوفاً من الداخل، فالروح تملأه، و تُغلفه، و تُزينه، و تُهدي لهُ مَعنى لوجودِه.

كُنت في العاشرة من عمري حين ذَهبتُ لتخطيط صدىّ القلب، المعروف باسم «الإيكو»، لدى طبيبة الفحص القلبيَّ لأول مرة.

كُنت أسيرُ في رُدهة القسم برفقةِ طَبيبتي، و أستمعُ إلى نقاشاتِ الأطباء؛ حَتى وقعتّ على مَسمعي عبارةُ "زراعة القلب"! تقول المُمرضة الإندونيسية، بلكنتِها الغير مألوفة بالنسبةِ لي، و التي لاحظتّ التعجُب على وجهي؛ "يقومون يا صَغيرتي باستبدال القلب الذي لم يَعُد صِحيًّا و صالحاً، بقلب متبرِّع أكثر صحة."

شَردّتُ لبُرهة من الزمنِ، و تجولتُ ببصري في أرجاءِ القِسم، و يأخُذني تفكير الطفلةِ ذاتِ العشرة أعوامٍ، إلى أبعادٍ أعمق بكثير..

شَرعتْ الممرضةُ في وضعِ اللاصقاتِ ذات المجّساتِ على صدريّ، و أطراف أذرعيّ، و أرجليّ، و التي كانت تُوصِلهُم أسلاكٌ ملونةٌ إلى الشاشةِ.

ثُم يا رَفيقي، تَضعُ الطبيبةُ الهُلام على الجهازِ و تَقومُ بضغطهِ بقوةٍ على الجلدِ، مُوجهةً حِزمةً من الموجاتِ فوق الصَوتية عبر الصَدّر لتصل إلى القلبِ، فتنظر إلى الشاشة لترى نبضُ قَلبِكَّ!

إذاً هذا هو قلبيَّ الصغير، ذاتِ المُشكلة الصغيرة..و لكنني لا زِلتُ أُعيد التفكير في مزرعةِ القلوب التي يَذكرونها..!أتسائل كيف يَضعون قلب شَخصٍ آخر تماماً في جوفِكَّ هكذا؟ هل ستبقى أنت نفسُ ذات الشخص، بنفس لون قلبِك الأصلي؟ ماذا لو وَضعوا قلب رجلٍ شرير في جوفك الطاهرِ؟!

و حين انتهيتُ من الفَحّص، طَرحتُ على طبيبتي سؤالي المُتألق، و والدايَّ يوجهان نظراتهما الفُضولية تجاهي.

سَادّ الصمتُ لبضعةِ دقائق، حتى ظننتُ أنني لن أحصل على إجابة..

ثُم بادرت الطبيبة؛ "هُناك بعضُ الدراساتِ مؤخراً تقترحُ وجود روابطٍ و عواملٍ مؤثرة بين العقلِ و القلبِ، و أن استبدال القلب، قدّ يؤدي حقاً إلى تغيير في تَصرُفاتِ المَريض."

ثُم توجهت الطبيبة تِجاه والدايّ و أكملت؛ "قرأتُ في آخر عددٍ لإحدى المجّلاتِ الطبية أنهم قاموا بوضع قلب رجلٍ مات مُنتحراً في جوف رجلٍ طيبٍ مؤمن، حتى مات منتحراً كذلك بعض بضعةِ أسابيع من إجراء العملية."

تمكّن مني اليأس لسماعِ هذا، و شعرتُ بالإحباط؛ كيف للإنسان أن يَفقد قَلبهُ و لو لم يفقِده؟

ثُم اقتربت الطبيبة مرة أخرى مني و أضافت؛ "و لكن اسمعي يا صغيرتي، هذه الأشياء في علمِ الغيب. صحيحٌ أن القلب بنصِّ الكتاب هو أهم عضو في جسدِ الإنسان، و لذلك امتهنتُ هذه المهنة. و لكن..

مع الوقت، أدركتُ أن أهم ما في جوف الإنسان؛ هي روحهُ، و ليس قلبه. حين نموت؛ قلوبنا لا تتَرك أجسادنا، بل تَصعد أرواحُنا إلى السماءِ. حين يُدفن الإنسان، تتحل جُثته، و لو كان قلبهُ، و لكن تبقى روحهُ. الأرواحُ لا تموت و لا تتحل. حتى و ان وضعوا قلب رجلٍ سيء في جوفٍ طاهرٍ كما تزعُمين، فإن طُهر الجوفِ يُصلح القلب و يُزهره و لو كان فاسداً. إن الأرواح هي قلب الجسد الحقيقي، و بدونها لا يعد للقلبِ قيمة.

حين نبحثُ عن أشباهِنا، لا نبحث عن ذواتِ القلوبِ المُتشابهة، فنحنُ لا نرى القلوب على هيئاتِها، بل مُجدداً، لا نُبصر إلا للأرواح. و إن كان القلب أجوفاً من الداخل، فالروح تملأه، و تُغلفه، و تُزينه، و تُهدي لهُ مَعنى لوجودِه.

ثُم نظرت الطبيبة إلى عُلب الدواء على مكتبها؛ "فهذه أدويةُ القلبِ إن كان به خلل، و بدونها يَذبل و يتوقف القلب، أما الروح فلا دواءٌ ماديٌّ لها، و مع ذلك، إن فسدت الروح؛ فسد القلب، و العقل، و الجَسد بأكمله.

قدّ يَأخذ إنسانٌ قلب إنسانٍ آخر، و لكن يَستحيلُ أن يأخُذ روحه. و حين تتبعين قلبك يا صَغيرتي، فاعلمي أنك تتبعين روحّكِ حينئذ، و هذا هو المُراد."

و في النهاية أضافة و ابتسامةٌ تتلاعب بشفتاها؛ "لا بُد أن أقول لكِّ اليوم أن تُحافظي جيداً على صحة قلبكِ كنصيحةٌ من طبيبة القلبية؛ و لكن اليوم أُضيف على ذلك؛ حافظي على روحكِ يا صغيرتي. يحميكِ الله و يُبقيها دائماً مُضيئة من أجلكِ."

"تَذكريني دائماً بذلك."

ريم عاطف

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات ريم عاطف

تدوينات ذات صلة