"كل ما نفعله كعلماء من استقراء الأجزاء للوصول إلي الكليات أو استنباط الأجزاء من الكليات ما هو إلا محاولات للوصول ألي حقيقة التصميم الذكي للخلق"


لم يكن هناك أحد ليشهد مراحل خلق السماوات والأرض، ولم يكن هناك أحد أثناء خلق النبات والحيوان ثم بعد ذلك الإنسان الأول ولا حتي الأخير. خلقنا ما هو إلا صندوق مغلق نحاول فك شفرته بالعلم ببطء منذ بدء الخليقة. وعندما بدأنا نفهم بعض أسرار الله في خلقه اكتشفنا أننا كالأطفال الذين لديهم سيارة أو طائرة يلعبون بها وهم لا يعرفون كيف صنعت حتي ولو كانوا يعلمون من الصانع. واذا حاولنا معرفة كيف صُنعت السيارة فعلينا فكها أولا لنتعرف علي أجزائها قطعة قطعة وكيف تم توصيلها وتركيبها مع بعضها البعض في هندسة شديدة التعقيد. ولكننا نفاجأ في النهاية أن إعادة تركيب العربة كما كانت ليس سهلا كحال تفكيكها.


وأنا كأحد علماء البيولوجيا، أري أن مايقوم به العلماء في معاملهم ما هو إلا محاولات منهم لتفكيك الأنسجة والخلايا والجزيئات التي خلقها الله في أحسن تقويم لمحاولة فهمها. ولكننا كعلماء متمرسون نكتشف في النهاية أن ما فعلناه بالخلايا والجزيئات ما هو إلا بعثرة للكل وما فهمنا إلا الجزء القليل وهو غير الكل المبهم علينا والذي يزداد غموضا كلما فهمنا. وهذا ما أصبح علماء الغرب يسمونه التصميم الذكي.


ومن العلماء الداعيين لنظرية التصميم الذكي العالم الأمريكي الشهير ستيف ماير والذي يتحدث في محاضرة عن نظرية التصميم الذكي فيقول : الفيلسوف الملحد البريطاني الشهير "انتوني فلو" الذي كان من اشد المناصرين للالحاد والمحارب الشرس ضد فكرة الأيمان بالخلق . تصدر الاخبار العالمية عام 2004 عندما أعلن أنه لم يعد يتقبل الإلحاد، وأنه عاد الى اعتناق الأيمان بالله. وقال انتوني فلو: أن من أسباب رفضه الألحاد ونظرية التطور، أنه قَبلَ واقتنعَ بالدليل القاطع على التصميم الذكي،


وقد دلل نتوني فلو على صحة التصميم الذكي المعتمد على جزئ ال DNA (دي أن اي). وفي نفس العام، كانت هناك قصة جديدة وكبيرة في الأخبار العالمية من العالم البيولوجي، والبيولوجي التطوري مايكل بيهي الحاصل على درجتين للدكتوراه من جامعة بينسيلفانيا، والذي تم محاربته بعنف وتخفيض درجته العلمية من قبل التطوريين، ثم طرده من مكتبه ومضايقته لأنه قد تم اختياره لنشر مقال يدافع فيه عن نظرية التصميم الذكي في واحدة من أشهر المجلات العلمية العالمية، التي نشرت المقال خارج جامعة بينسيلفانيا.


https://michaelbehe.com/videos/secrets-of-the-cell/


نظرية التصميم الذكي بين الإلحاد والإيمان بقلم د. محمد لبيب 8514988722706129


وقد نشرت المقال مجلة ( وقائع الجمعية البيولوجية ) في واشنطن. وأثار هذا المقال جدلا كبيرا وقتها في وسائل الأعلام في صيف 2005. وكانت نظرية التصميم الذكي تتصدر الاعلام في كل مكان .كما حدثت بلبلة كبيرة في ولاية بنسلفانيا ومعظم وسائل الأعلام الرئيسية ، وانفعال حقيقي حول هذه النظرية الجديدة، وإذا كان من الممكن الحصول علي الموافقة على تدريسها بالمدارس العامة أم لا، ودراسة دلائلها، والعلماء الذين وقفوا معها أ ضدها.


وتعرف نظرية التصميم الذكي بأن كل خلق تم تصميمه بطريقة خارقة الذكاء والحكمة توحي بوجود خالق وراء هذه التصاميم الذكية البديعة. وبمعني آخر يوحي التصميم الذكي أن الكليات خُلقت من جزيئات بطريقة ذكية للغاية تجعل وظائف الكليات مختلفة عن الجزيئات. وتوحي أيضا بأن خلق مكونات الكون التي تكامل سويا من جماد ونبات وحيوان وإنسان لم يكن عشوائيا في يد ما يسمي الطبيعة ولكن الطبيعة نفسها وما فيها من خلق هي من صنع الخالق الذكي الذي كان وراء هذا التصميم. وبالطبع هذه النظرية هي ليست في الأساس دعوة للإيمان بالله ولكنها تشير بقوة إلي وجود خالق عظيم وهو الله سبحانه وتعالي.


وقد وجدت وجهات النظر هذه في نظريات كبار العلماء مثل كابلر، كوبرنيكوس، بويل، واسحق نيوتن. فقد أوضح نيوتن موضوع التصميم الذكي في علم البصريات بكتابه العظيم عن الضوء والعين، وأيضا بكتابه العظيم (المبادئ)، الذي تحدث فيه عن نظرية الجاذبية . فعلي عكس داروين الذي دحض فكرة التصميم، حيث قال بعد نشر كتابه (الأصول) : " لا يبدو ان هناك تصميما في تنوع الكائنات العضوية وفي عملية الانتخاب الطبيعي أكثر من مجرد التصميم الذي يتحكم في هبوب الرياح"، فإن علماء نظرية التصميم الذكي يعلقون علي هذا التفسير الدارويني بقولهم أن نظرية داروين فسرت الكثير من الأشياء التي عرفها والتي كانت محدودة جدا في القرن التاسع عشر، علي عكس المعلومات المتاحة حاليا والتي لم يفسرها داروين ولم يسمع بها في حياته.


ومن المعلومات التي أصبحت تدرس منذ عقود في البيولوجيا آليات النانو تكنلوجي شديدة الدقة التي وجدت اليوم بداخل الخلايا . ومنها ما بحث فيه العالم مايكل بيهي حول مكونات السوط او الذيل المتحرك بشكل دوراني خلف البكتريا لتحريك الخلية، هذا الذيل الذي يتكون من 16 جزء مرتب بطريقة دقيقة جدا ليعمل كمحرك (موتور) يدور باستمرار، وهذا من تصميم النانو تكنلوجي الذكي، ولم ينشأ بطريقة عشوائية وبالصدفة. نعم، كل جزء فيه مصمم ومرتب مع غيره بدقة عالية.


والعجيب أن هذا السوط الذي يشبه المجداف (الذيل المحرك لخلية البكتريا)، الذي يرتبط بمؤخرة الخلية لتحريكها والسباحة، يتحرك ليدفع الخلية للأمام وإلي اتجاهات مختلفة. ويرتبط هذا السوط بتركيب آخر يسمى الخطاف والذي يعمل كمفصل ليسمح بالحركة الدورانية للعمود أن تنتقل إلي الخيط السوطي. ويتصل العمود بمحرك يسمح بمرور الحامض من خارج الخلية الى داخلها لكي يمدها بالطاقة لتعمل. ومن الممكن تشبيه هذه العملية بعملية مرور المياه عبر توربينات توليد الطاقة الكهرومائية لتشغيلها. فالعمود عليه ان يحشر نفسه في الغشاء البكتيري ، ولهذا بعض الأجزاء تعمل كمواد ضاغطة.


وبهذا نري أن لدى الخلية البكتيرية ميكانيكيات رد فعل حساسة تخبرها ما إذا كانت هذه الآلة تسير بشكل سليم أم لا حتي تطفئ الآلة إذا ما شعرت بحدوث خطأ لتحفظ طاقتها، انها آلة حقيقية متكاملة الأجزاء.وعلينا أن نتخيل النتيجة المأساوية للخلية البكتيرية إذا لم يكن الخطاف أو العمود أو المحرك أو الخيط موجودا. بالطبع لن تحصل الخلية على نصف سرعة دوران السوط المعتادة. بل سنحصل على سوط مكسور أ حتى بدون سوط.


وقد اعتمد مايكل بيهي علي هذا المثال الرائع في تصديه للجزء الثالث من تعريف التطور الذي وضعه داروين وهو الخاص بالانتخاب الطبيعي. فكيف للخلية البكتيرية أن تترك تكوين هذا السوط لنظرية الانتخاب الطبيعي عبر الزمن لتصبح بلا سوط حتي يجود عليها الزمن بهذا السوط خلال عمليات بيولوجية متعاقبة كما كان يظن داروين في زمانه الذي كان علم البيولوجيا وقتها مازال يحبو في طفولته.


وقس علي ذلك التكوين البديع لتركيب الحيوان المنوي الذي يشبه في تركيبه وانطلاقه عند حركته في رحم الأنثى ودخوله البويضة كالصاروخ الذي يحمل سفينة الفضاء خاصة في اللحظة التي ينفصل فيها ذيله عن جسمه تماما كما يحدث للصاروخ. بل علينا أن نكون منصفين ونشبه الصاروخ بالحيوان المنوي وليس العكس. وبالطبع هناك ملايين الأمثلة التي تبين علي مستوي النانو التصميم الذكي المبدع والمُتقن والذي لابد وأن يكون ورائه خالق واحد مبدع.


ونعود للعالم الشهير مايكل بيهي الذي ألف الكثير من الكتب العلمية المتخصصة في الخلية، وعن تحدي الكيمياء الحيوية للتطور فقال: " إن معظم الناس ليس لديهم فكرة عن مدى صغر وتعقيد الخلايا. فالخلية الموجودة في اجسادنا، تسمى (خلية حقيقية النواة)، وهي تمثل بحجمها عُشر حجم راس الدبوس. وفي الخلية الواحدة حوالي ثلاث ومليارات من الوحدات من جزيئات DNA التي تكون الكروموسومات، وثلاثة مليارات من الوحدات التي تصنع الآلات الجزيئية في الخلية، وهي الآلات التي تشغّل الخلية .


ومن الممكن وباستخدام بالحاسوب محاكاة عمل الخلية والدخول إلي الخلية لنري التعقيد المذهل للآلة الجزيئة بوضوح. وقد يشبه هذا الدخول إلي مصنع لتصنيع وإنتاج السيارات. وبداخل المصنع عدد ضخم من الآلات كلها تعمل معا بطريقة محددة لتؤدي وظائفها. وإذا حدث خطأ ما في جزء من آلات وميكنة الخلية، تقع الخلية في مشكلة كبيرة. وإذا كانت الخلية الواحدة هي بالغة التعقيد، فكيف بجسمنا الذي يحتوي على تريليونات من هذه الخلايا التي تعمل كلها بتناسق مع بعضها لديمومة الحياة في الجسم وتؤدي وظائفها بشكل مبدع.


وأنا شخصيا وكرجل مؤمن بوجود خالق أحد أري أن نظرية التصميم الذكي هي تعبير غير مباشر لمن يدعون لها من العلماء إلي وجود الله ووحدانيته، وإلا وجدنا أنثوية خلايا الضفدعة أو غيرها من الحيوانات فيها شيء آخر غير الكروموسومات الموجودة في كل أنثوية كل الكائنات الحية بما فيها الإنسان.


ولكن مجلة التايم المعارضة لفكرة التصميم الذكي وصفت هذه النظرية بأنها مؤامرة للقضاء على نظرية التطور، وأنها مُحَرَكَة دينيا، وأنها دين متنكر بصورة العلم ! ولكن في الواقع نجد أن نظرية التصميم الذكي لا يستند الى الدين مطلقا، بل تستند إلي الدليل المعتمد علي الاكتشافات المتطورة في العلم الحديث وخاصة علي مستوي البيولوجيا الجزيئية وإلي مقاييس المنطق العلمي والتجارب العملية ومستندة الى الاستدلالات عن معرفتنا لسبب وتأثير تركيب الخلق. ولهذا فإن قواعد التصميم الذكي ليست دينية في الأصل عند علمائها، لكنها أدلة وطرق علمية للبحث والتقصي . لكننا بالطبع نعترف بأن هذه النظرية لها آثار ايمانية فهي مدعمة للمعتقد الإيماني .


وفي النهاية أنا لست ضد داروين ونظريته عن الانتخاب الطبيعي للكائنات الحية، بالعكس أنا أقدره واحترمه فقد بذل مجهودا جبارا لكي يصل إلي نظريته في زمانه الذي كان بلا تكنولوجيا مثل الموجودة حاليا. بلهو الذي فتح الطريق امام العلماء لإعمال العقل في الإجابة علي العديد من الأسئلة التي كانت غامضة أو مفتوحة آنذاك. وأنا أيضا لست ضد نظرية التصميم الذكي بل علي العكس فأنا معها لأنها منطوق آخر لوجود خالق واحد أحد وراء خلق هذا الكون.


هذا التصميم الذكي هو الله الذي خلق كل شيء فأحسن خلق، هو الله الذي وإن كنا لا نراه جهرة فنحن كعلماء نراه في خلقه علي مستوي العين وفي الخلية تحت الميكروسكوب وفي أنبوبة الاختبار.


وسبحان الذي خلق فسوي.


د. محمد لبيب سالم

أستاذ علم المناعة كلية العلوم جامعة طنطا

وكاتب وروائي وعضو اتحاد كتاب مصر

www.mohamedlabibsalem.com

[email protected]


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

https://www.youtube.com/watch?v=vnHLE_Jb1tg

إقرأ المزيد من تدوينات د. محمد لبيب سالم أستاذ جامعي واديب

تدوينات ذات صلة