والكثير مما تقوله العجائز، ولا يعيب الرجل أن يتزوج بأربع والتي لا تنجب تأتي بواحدة لتنجب
كان ينبغي ألا نصدق ما كان يحدث، وهيب الذي بعقيرته جمع الجن في عربة جراره الزراعي، قبل بزوغ الفجر بقليل، كان صوت الطبل والزمر يمتد عبر الأفق البعيد حول القرية بالشريط الدائري الذي تتفرع منه ألسنة طويلة من الطرق الفرعية الوعرة، ارتجاج العربة صعودًا ونزولاً مع كل كدرة وصخرة بالطريق التي تنبث حبوبًا قد اختلف لونها وحجمها، وهيب كان في العقد الأربعين، قوي الهمّة، عفيف النفس، طويل القامة، عريض المنكبين، ومع سمرته الداكنة اكتسب ملوحة طيبة وبخاصة عندما تمتد ضحكته ملْ وجهه الطولي والذي تغطيه شعيرات لحيته السوداء، كل هذا لم يكن ليكفيه فقد كانت الفطنة تنقصه- سبحان مقسم الأرزاق بين البشر- ظل بعقيرته يُعمل قهرًا مع مؤذن المسجد عبد الرحمن، الأخير يؤذن للصلاة ووهيب يُطلق عقيرته بالغناء، والجن يطبلون ويزمرون ولا يكفون عن الرقص في عربة الجرار قبيل طلوع الفجر.
-أيّ والله، لقد رأيتهم بأمّ عينيّ هاتين اللتين سيأكلهما الدود.
-ولم لا تتوقف عن الغناء، ووحد الله على الأقل قبيل طلوع الفجر؟
-وهؤلاء الذي أراهم في العربة ينظرون إليَّ بأعينهم الصغيرة وآذانهم الطويلة، ماذا أفعل بهم، مالذي يصبرني على الذهاب برفقتهم لأرضي البعيدة؟، قسمتي ونصيبي بأن تكون أرضي بأطراف القرية، ولولا لقمة العيش يا حاج أيوب والله ما كنت لأجعلهم يركبون معي، لكن ما باليد حيلة، ما أطلقه من أغاني كلنا نغنيه، لم تستكثرونها عليّ؟
بهذا الجدل الذي لا ينتهي يبقى وهيب يحمل بعربته الجن الذين يزمرون ويطبلون.
لم تكن القصص والخرافات لتنتهي عند وهيب
بل كانت قصة جابر أكثر قدرة على الإقناع، فصغار القرية وكبارها يعلمون ما كان من أمر جابر، القلادة ذات الخرزة الحمراء في عنقه كانت كفيلة بأن تهبه الحياة الطبيعية كغيره من أهل القرية الممتدة على ذراع؛ قمته يقبع التل يتسع بصفحة مستوية على جنبيه ثم ما تلبث أن تهبط بلسان عريض، لكنه ذات يوم نسيها وخرج دونها فلم يبق بالقرية صغير أو كبير، امرأة أو شيخًا إلا وقد خرج على صراخه الذي عمَّ القرية من شمالها لجنوبها، ومن شرقها لغربها، المروع في المشهد جابر وتلويه على التراب وارتطامه والحجارة وهو يحاول أن يزيح تلك الجنية العاشقة التي رغبته دون غيره من رجال القرية، الوحيد الذي رآها كان جابر وهو الوحيد الذي أخبرهم ببشاعتها وبشعرها المنفوش وبوجهها المرعب...تلويه على رمل الطريق جعله يهوي إلى القاع تاركًا جسده تتمخض منه الدماء...لتهبه الجنية الحرية؛ غير أنهم ما استطاعوا أن يعلموا أعشقت الجنية أحدًا غيره...
الغريب أنَّ القلادة ذات الخرزة الحمراء اختفت...ولم يُعلم عنها شيء منذ ذلك الحين.
المدرسة ذات الحجارة البنية الكبيرة المائلة لصفرة يانعة، كانت أول مدرسة في قريتنا في عام 1947، الصفوف الأولى جمعت القرى سال، بشرى، المغير وحكما...رغم أنَّ عدد سكان قريتنا لم يكن كبيرًا ولكنه حظي بمدرسة كبقية القرى؛ كنا صغارًا ذكورًا وإناثًا في رحلايتنا، الصفوف كانت أربع وكانت ملآى بنا جميعًا، أساتذتنا العشرون أتموا امتحان المتريك من فلسطين ومنهم من سوريا أو مصر، ومنهم من معهد خضورية، في نهاية الخمسينيات كانت مدرسة التل في إربد للثانوية، تأهيل المعلمين كان من معهد الريفية في إربد...لم نكن في قريتنا نحلم بمدرسة ولكنها كانت تعلمنا بالنشيد بأنَّ الملك عبدالله الأول قد أنجز الكثير...ولعل الخرافات قد غادرت رحلاياتنا منذ ذلك الحين.
سن الزواج صغيرة، عندما تبلغ الفتاة بين سن الثانية عشرة والثالثة عشر كانت الفتاة تفتح بيتًا، أكثرهن كان يزوج لرجل طاعن بالسن أو تدخل على ضرة أو زوجة رابعة أو تزوج لأرمل ماتت عنه زوجه في يوم دفنها، صغار العمر لم يحظوا بزيجات إلا بعد أن يتجاوزوا الخامسة عشر، قلة قليلة حظوا بالزواج أصغر من ذلك.
البيوت لم تخرج منها بيوت، بل تمددت أفقيًا وعاموديًا وبعضها بقي بغرفة واحدة، بخارج يقضون فيه حاجتهم، وبابور، وفرن واحد يفرض نفسه في بيت عُرف أهله بالكرم وسعة الحال وهو الذي لا تمتلكه كثير من البيوت.
زواج القاصرات كان حقيقة فرضتها طبيعة الحياة...
الخوف من العار...
الإيمان بالقسمة والنصيب...
الستر مطلوب...
البنت ليس لها غير بيت زوجها....
ظل رجل ولا ظل حيطة....
والكثير مما تقوله العجائز، ولا يعيب الرجل أن يتزوج بأربع...والتي لا تنجب تأتي بواحدة لتنجب...الزوجة تزوج زوجها...والبطن وراء الآخر، والرحلايات ملآى بالصغار، والطرقات مليئة بالصغار...وهم يلعبون الدواحل وبيت بيوت...ويتلصصون على صبار الجيران وتين الطريق وتسلق التوتة الكبيرة الممتدة في منتصف القرية.
أساتذة المدرسة كانوا ممن أنهوا الإعدادية وامتحان المترك... ومدير للمدرسة والعصا لمن عصا...من ينهي الابتدائية بنجاح عليه أن ينتقل إلى المدرسة الإعدادية ويسافر إلى فلسطين أو سوريا أو مصر....فقليل من أتمَّ تعليمه...ولما فتحت المدرسة الثانوية التل للذكور ومدرسة طبريا للإناث كنا نسير أفواجًا أفواجًا...الطريق المقفرة، البيوت المتناثرة ...الفتيات اللواتي يحتمين بالشبان في طريق الذهاب وفي طريق العودة، الأولويات للفتيات في ركوب الباص...كانت الحياة غاية بالسهولة، الصغار يكبرون بسرعة والفتيات يتزوجن وينسترن في بيوت أزواجهن، رغم النظرات الحائرة التي تتساقط أمام العادات والتقاليد.
كثير من الفتيات رغبن بأن يكملن تعليهمن... رفضن الزواج، الزرقة الداكنة في أجسادهن كانت كفيلة بان تصمتهن، ولكن جميلة لم تصمت...جميلة جميلة بالفعل، عينان خضراوان وشعر أشقر يتدلى إلى أسفل ظهرها، وزند ملفوف وجسد مفتول، وثغر كحبة البندق، الكثير من الشبان كانوا يذهبون للجلوس على مقربة من بيت جميلة، سرقوا الكثير من السجائر من دكان أبي محمود، قام أحدهم بإلهائه وتبادل أطراف الحديث معه والبقية تصرفوا بخفة وسرقوا السجائر التي كان يبيعها بالواحدة فقليل من أهل القرية من يحمل النقود، البيض البلدي، الحليب، السمن البلدي، كان كفيلاً بأن يحلَّ محل القرش...لشراء الحلاوة، أو السكر...وغيرها الكثير...
جمال لا يحبه أحد، نزق الطباع، لا يكف عن ضرب جميلة ليل نهار، يمنعها من الخروج ويتوعدها بأن يزوجها من أول طارق...ولكنه رفض أستاذ المدرسة، ولم يقبل بصاحب البك أب الوحيد في القرية، ولم يقبل بمن لديه غرفة وأهله مقتدرون...رفضهم جميعًا. ورفضت جميلة من قبله جمال، رفضت عبدالقادر القادم من الكويت، رفضته بشدة، هي تريد أن تختار من تريد، لم تقترف ذنبًا...ألكونها يتيمة جعلها لقمة مستساغة لينهب جمال حقها.
القرية لم تتوقف عن التحدث في يباسة رأس جميلة وأنها لا تنضب في البيوت ويجب أن يكسر جمال رأسها، العجائز كنا مع هذا الأمر، لم يعجبهن أسلوب جمال مع أخته، وأرسلن إليه أن يضربها بقوة وأن يحبسها، الرجال كانوا يتأملون أن يلين رأسها لينال أحدهم الزواج منها.
ولكن جميلة اختفت...
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات