«يبعد موقع خربة الزيرقون حوالي 13كم من الشمال الشرقي لمدينة إربد،

وبالتحديد 2,5كم إلى الجنوب الشرقي من تل المغير، ويتمركز الموقع الأثري فوق الحافة الغربية لوادي الشلالة شمال الأردن..." عندما سيقت إلى المذبح كان الجميع يرحبون بقتلها، وينادون بأعلى صوتهم: فلتنتهي الشريرة، حان أوان القصاص... كانت تزفهم بنظرة عينيها الضيقة، دون أن تمسح الكحل منهما، لكن من أعتلى الأدراج الإسمنتية في المدرج الكبير الذي صعدت إليه المئات من الأجساد، كان المعبد الذي يتوسطه مذبح دائري يبلغ قطره حوالي سبعة أمتار، يتخلله من الجهة الجنوبية الشرقية درجات كانت توصل لقمة المذبح، ويتصل المذبح من الجهة الجنوبية الشرقية ببناء مستطيل الشكل يمكن الوصول إليه من ساحة مفتوحة أمام المذبح الدائري حيث اتصلت الأجساد مشكوكة مع بعضها البعض وهي ترقب مشهد قتل المشعوذة، الجدران الداخلية مليئة بالقوارير الفخارية المرصوفة بدقة وعناية حسب اللون فوق بسطات مستوية، القوارير الغامقة مليئة بالدماء الهرمة بينما الفاتحة اللون فقد ملئت بدماء العذراوات...

حيث تؤخذ هذه القوارير إلى بركة الأرواح، وتصب فيها على مهل مع الكثير من الصلوات حتى تدعهم الأرواح الشريرة وشأنهم، ثم تعاد إلى الجهة الجنوبية مع مجموعة القوارير الفخارية، وبقيت طبقات الكثيفة من الرماد في الجهة الجنوبية الغربية من المذبح الدائري القريب من سور المدينة...حيث تحرق القرابين من العذراوات بعد ذبحهن تقربا للآلهة آرتيمس؛ لحفظهم وذريتهم ...

لكن الذبح لم يكن لأولئك العذراوات في هذا اليوم المشهود، ولكنه كان للمشعوذة التي كانت تطلق بالتعاليم التي تقود زيرقون إلى طقوس الحفظ من الأشرار...

سايمر لم يحفل بنظراتها، ولم يكن الوجل ليصل إلى نفوس أهل المدينة العليا، فقد استحال أمرهم إلى تصميم على القضاء عليها، فهي الشريرة التي أضافت إلى ماء الحياة لديهم السم، وعاثت في زيرقون الفساد، بل وصل بها الأمر إلى التخطيط لتسليم البلاد لأعدائهم...

النقاط الثلاث الأولى من دمائها سقطت قبل أن تصل إلى المقصلة، سقطت من خلف أذنيها قبل أن تصل المذبح...

الجزع الذي نبت في نفس سايمر كنبات الصبار؛ جعله يمسح قطرات العرق الباردة التي تجمعت فوق جبينه...فتلك الشريرة لم تجعل لها نهاية... فالأسطورة تقول: أن الساحرة الشريرة إن أسقطت ثلاث نقاط قبل أن تذبح فستعود طالبة عذراء، وستحيل زيرقون إلى دمار...

لكنه لم ينطق، لم ينبس بحرف، وبقي يرمق ذبحها بمقصلة لامعة، وقد تدحرج رأسها بشعرها الأحمر الطويل والشمس البيضاء، كانت تنذر بعاصفة قريبة...لم يسر أحد ليرثيها، ولم يجرؤ أحد على فعل ذلك، ورغم أنهم شعروا بالكثير من الراحة لمجرد أنها قتلت، ولكن وسواس الخوف بقي يسير كالقشعريرة في أجسادهم، كل منهم مضى لشأنه في حين صعدت النيران التي أحرقت عند بوابة المدينة الحصينة، ودفنت هناك وفوق قبرها بنيت بوابتان... واحدة فوق قبرها والثانية على الجانب الآخر، وقد اعتلى البوابتين برجان عظيمان... كان ذلك في رسالة قاسية لأعدائهم " أنهم بقتل المشعوذة وإحراقها لن يسمحوا لأحد التفكير بالتفكير في الهجوم على المدينة..."

رائحة الشواء الخانقة من جثتها جعلتهم يسارعون للغياب في بيوتهم ذات الأبواب الضخمة...لم يبق لها بيت... وقواريرها المليئة بالكثير من السوائل الملونة دفنت أيضا معها، وأحرقت كتبها كل ما كان يتعلق بالساحرة الشريرة قد انتهى...

تلك القطرات الثلاث التي سقطت من وراء أذنها كانت كفيلة بأن تدب الرعب في المدينة لعقود، ولكنه احتفظ به لنفسه، لم يخبر بها أحد، رغم أن هاجسا لديه جعله يقف على مسافة قريبة من الخطر، ما يجهله خوفه على صديقته ألينور جعله يطيل البقاء عندها، وهي تملأ قارورة الماء من الأقنية الصغيرة ذات الطلاء الأبيض، رغم قربها من بيتها، ملاحقته لها كظلها طالت كل حركاتها وسكناتها، عند ذهابها إلى السوق لشراء الحاجيات وعودتها، ألينور تعرف كم يحبها وكان يسرها وجوده بقربها... ولكنها اختفت...

حبيبته اختفت...كيف لا يدري؟ فهو لم تفارق ناظريه... ما الذي أصابه بعد قتل تلك الشريرة التي كان سببا في التضحية بالكثير من جميلات زيرقون وعذراوته، حتى كادت أن تكون واحدة منهن.

الضحايا الكثيرة التي تقدم كقرابين إلى المذبح باسم الدفاع عن أرض زيرقون إلى أن وشى بها أحد الكهنة الذي أرغمته على التآمر معها في هذا الأمر...الكاهن أفرام خرّ راكعا وهو يهذي... وعند اعترافه، أكد أنه كان يفعل ذلك بعد أن كانت تسقيه محلولا أحمر اللون في زجاجة صغيرة ليس بالنبيذ ولا بالزيت ولا يشبه منقوع الورد، إنما هو مزيج لا يعرفه، له رائحة جميلة تسلب العقل، فجعلته يأتي الحسناوات ومن ثم يقتلن باسم الآلهة لتحاشي غضبها ولعناتها... ولكنه عندما كان يفيق شعور الضيق كان ملازما له، الكوابيس التي تأتيه ليلا لم تفارقه نهارا، صراخ العذراوات ودماؤهن بين يديه، لم تجعله سوى مسوس، فهو يخشى النوم وحده، يخشى البقاء وحده...

الكثير من الأيدي التي تمتد كأذرع شيطانية لتطاله، ووقع الأقدام التي تسير إليه في كل أيامه... تبقيه يقظاً، لم يعد يستطيع الاستمرار وبخاصة أنها أخبرته أن عليه قتل الحاكم، وناولته زجاجة صغيرة، يدس منها نقاط ثلاث في شراب الملك، في احتفال زيرقون بعيدها السنوي،.

الرعشة التي أصابته وقلبه الذي نزع منه، أفقدته قدرته على ضبط أعصابه وسط دهشة المدعوين من كبراء المدينة، والمدعوين من خارجها الذين ثبت تورطهم في حادثة التخطيط لمكيدة الاغتيال...لم يكن فقط هؤلاء من دبر لتلك المكيدة بل كان الكثيرون داخل المدينة من له مصلحة في إنهاء حكم الحاكم وتوليه من بعده...وعلى الكثير من رجال الدين المتورطين وقد ساقوا المشعوذة بعد أن اعتلت قمة جبل خارج المدينة...في محاولة منها للهرب باءت بالفشل... بعد أن استطاع الحراس القبض عليها وهي تتفل عليهم ببصاقها ذي اللون الأخضر المصفر وتنفرج عن أنياب لها كأنياب الأفعى، وهي لا تكف عن وعيدهم بالنيل منهم...

كان حينها الكاهن أفرام قد انهار وهو يقبل قدمي الحاكم راجيا العفو...لكنه جن واخذ يهذي ويصيح داخل زنزانته التي لا تضيء ليلا أو نهارا...

من الجنون التصديق بشيء كهذا، ولكنه حدث و اختفاء ألينور جعله يطفق باحثا عنها في كل مكان... لم يعد لها أثر... كيف؟ ولماذا؟ وأين؟ أسئلة كثيرة لم يستطع الإجابة عنها...

حبيبته التي لا يكاد يفارقها إلا ساعات النوم، واقترابه المتزايد منها آثار حفيظة أبيها التاجر الشهير في زيرقون، والذي لم يكن يريد لابنته أن تتزوج بهذا الشاب الذي لا حول له ولا قوة ولا يكاد يجد قوت يومه لولا تلك الدمى الفخارية التي يشكلها والده بأشكال مختلفة ويبيعها في الأسواق أو يحملها للأغنياء... لم يستطع الوقوف على أنه الزوج المناسب لابنته في زيرقون رغم تلك الجلادة لديه والحب الذي يكنه لابنته...

لم تكن زيرقون مدينة عادية؛ فقد كانت مقصد الكثير من الحجيج ليقدموا قرابينهم من دماء لبركة الأرواح الشريرة...ومن ثم يتبركون في المعابد... المعابد والقصر والمرافق التابعة لهما كانت في الأجزاء العلوية من المدينة وسميت بالمدينة العليا، وبقيت أرواح ساكنيها غارقة بشقائها في المباني السكنية في المنطقة السفلى...

الغرف الصغيرة من جهته الشمالية الغربية كانت للكهنة الذين يشرفون على تنفيذ الأحكام و الكاهن أفريم أبرزهم، والذي تميز بنظرته المخيفة، لم يكن أحد ليجرؤ على النظر إليه...، ولكنه بعد اعترافه وذبحه في المعبد بعد أن طال سجنه وهو يهذي بجنون، أراح الكثيرين من تلك النظرة التي كانت تصيبهم بالرعب وتلهب مفاصلهم، فلا يفيقون إلا على يد الكثير من الرجال الملثمين يجرونهم لغرف التعذيب الأخرى التي لا تسمع فيها أنفاسهم، ولا يخرجون منها أحياء... وبقيت المشاعل تضيء كل ليلة عند السفح الشرقي ينتظر فيها عودتها.

الخوف الذي أصابه بعد اختفاء ألينور وإبقاءه المشاعل مضاءة ليلا عند الأسوار، اخترم جسده... فلم يعد قادرا على عد الدمى الفخارية التي كان يسوقها بصناديق إلى المعابد، وبيوت الأغنياء وأصحاب السلطة، بعد أن يتم نقشها والده ساتوم وقد شكلها بغرفة خاصة فيها فرن حار كفيل بإحراق صلصال تلك الدمى الصلصالية ذات رأس طير وأخرى ذات أشكال حيوانية، لم يجدها كاملة، فقد نقص منها الكثير... حيرته المتزايدة جعلت يظن نفسه محموما وهو يرى تلك الأقنية المبنية من حجارة متوسطة الحجم، والمقصورة بقصارة تصل إلى حيث يتم جبلته للصلصال المياه، التي كانت تنزل بسلاسة حيث القوارير الكثيرة والمعجن الخاص توقفت، والكثير من الأتربة الصلصالية قد ملأتها.

الحيرة التي أصابته ووالده لم تكن لتصيبهما وحدهما بل جميع من كان في زيرقون، حيث كان الهواء البارد الذي يلفح وجوههم مليئا بالرمال الصفراء... والدوامة التي أخذت معها كل شيء تسوقهم بريحها الصفراء...رغم أنهم احتبسوا أنفسهم في بيوتهم...لكن أذرعها امتدت غليهم واحدا واحدا لتجعلهم تماثيلا من صلصال... العاصفة الرملية زرعت الكثيرين والبيوت والطرقات المبلطة بالرمال الصفراء وبالكثير من التماثيل الصلصالية...

ظل مختبئ ينتظر دوره ولكن الوقت طال والهدوء قد عم المكان حوله... كان يدرك أن وعيد المشعوذة قد صدق...لم يكن بإمكانه فعل شيء لكنه صمم أن يذهب على حي البوابة التي دفنت المشعوذة أسفلها.

...تحت ضوء القمر كان جسده يسير دون أن يحمل مشعله، صعد إلى المدينة العليا، ولم يجرؤ على ملء رئتيه... فقد كان الهواء البارد مشبعا بالرمال الصفراء، كان بعينيه يتفقد كل الأحياء الذين أصابتهم لعنة المشعوذة، وبقي السؤال يحيره لم لم يصب بها؟

الكهنة أيضا أصابتهم اللعنة رغم أنهم لم يعترفوا بخطيئتهم كما اعرف أفريم، ولكن العقاب طالهم جميعا...

قدماه اللتان تغوصان بالرمال، تركت أثرا لقدميه بمشطهما الطويل، وهذا كفيل لأن يعيد اللعنة ثانية، فكان يُعمل بغصن الزيتون الطويل مسحا لأثاره وهو يطيل النظر بكل شيء حوله...الذكاء لا ينفع وحده بقدر ما تنفعه الحيطة والحذر وهذا ما فعله ...

الوصول إلى منطقة البوابات لم يكن صعبا في يوم من الأيام بقدر ما كان صعبا اليوم... ما يلقونه من دماء في بركة الأرواح لم ينفعهم، وما يقدمونه من عذراوات المدينة وجميلاتها كقرابين لنيل الرحمة... أي غضب ألمّ بمدينته وأهلها؟!

كان وحيدا تائها، رغم أنه يعرف كل شبر من مدينته، رغم أنه عاش عمرا فيها وقارب على منتصف العشرين... السنوات التي مضت لم تكن تشكل أي انعطاف في حياته كما هي الآتية التي لا يملك الرهان عليها، هي مجرد دمى صلصالية سرعان ما تنكسر، سرعان ما تذيبها مياه الأقنية أو تذروها الرياح...

ورغم اختفاء حبيبته، ورغم كل شيء حوله، وترغم اختلاف الصور...

التحصينات الدفاعية والشارع الذي يوصل إلى الحارة السفلى قطعه بوقت طويل، وهو يسير في الرمال، وكل الاتجاهات التي باتت واحدة حتى وصل إلى شارع يمتد باتجاه الشرق إلى جانب البرج، مرصوفا بالحجارة الصغيرة المخلوطة بالملاط، بأرضية مكونة من عدة طبقات...عندما اعتلى المصطبة الواسعة كان بإمكانه أن يرى تلك الأسوار الشاهقة التي أحاطت بمدينتهم، ولكنها لم تستطع أن تحميهم من اللعنات... بقيت أمامه تلك الأسوار بالجهات الثلاث الشمالية، والجنوبية, والغربية أعمدة في الفراغ...

حجارتها الكبيرة والمتوسطة الحجم، والتي أتي بها من مقالع حجرية من المناطق القريبة، ولكنها بقيت هشة لا تعني له شيئا...

مضى وقت طويل وهو يسير حتى أصبح كتلك التماثيل ذات اللون الأصفر، ورموش عينيه تكادان تغلقان على محجرين من صلصال...

البوابة باتت أكثر تعقيدا بعرض يصل ثلاثة أمتار بشكلها المتعرج...

البرجان مستطيلا الشكل رفعا فوق البوابتين... وقد بنيا بزاوية شبه قائمة... كانت التربة حولهما من تربة مرصوصة، ومخلوطة مع التربة الجيرية، والحجارة الجيرية الصغيرة في بعض المناطق المرصوفة... كانت هشة جدا عند قاعدة البرج فوق البوابة، وكان اللون الأسود مختلطا مع اللون الأصفر... الدماء الرطبة والمتخثرة ذات الرائحة النتنة والرمال الصفراء الخانقة...لم يكن يدري ما الذي عليه فعله، ولكنه أدرك أن عليه أن ينقذ كل تلك التماثيل الصلصالية، أن ينقذ محبوبته، أن ينقذ الهواء الذي يملأ به رئتيه...

مد يديه ليزيل الحجارة ولينبش التراب... سينبش حتى جذور البوابة حتى لو أمضى عمرا ليفعل ذلك؛ لأن عليه أن يفعل ذلك، وإن استيقظ عليه النهار المصفر الخانق، وإن طاف عليه سحر المشعوذة سيستمر ...

لم يمض وقت طويل حتى انتفض جسده، وتوقف قلبه الحجري، لقد كانت هناك يد قد أمسكته، يد قاسية مليئة باللزوجة تشده إلى الأسفل بمقدار تلك الفتحة التي قام بنبشها...

كانت كافية لأن ينزلق إلى أسفل، لقد ذابت الحجارة والرمال وسالت منها الدماء... وقد علقت تحت أظافره التي مشط بها الأرض الصلبة...حتى انزلق بكامل جسده دون أن يصرخ، دون أن تسمع أنفاسه الملتهبة، وقد علم أن لا أذن ستسمعه سوى أذن الأرواح...

ربما تكون أرواح باطنها أفضل من أرواح ما فوقها...

ثوان معدودة وانتهى كل شيء، وكأن شيئا لم يكن... لقد أغلقت الحفرة وسويت بالأرض المرصوفة بطبقة قاسية...

و على طول الطريق البعيد منها أثار للدماء السوداء مختلطة مع الرمال الصفراء ...








ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات رولا حسينات.

تدوينات ذات صلة