في ليلة فجرية من ليالي مكة العظيمة تضفي عليك من نسماتها ، تقص عليك من حكاياها فتأخذك إلى عالمها الخاص و تفوح السكينة من بين جنباتها فتهنأ ، هنا مكة

أذكر ذلك اليوم جيدا ؛ في اليوم الثالث من زيارتنا لأطهر بقاع الأرض ، استيقظنا على صلاة الفجر حينها لم يكن النوم حاضرا بين أروقة غرفتنا فالصلاة هنا حتما خير من النوم ، هممنا إلى المسجد الحرام في ليلة تلفها الغيوم تضفي عليك من نسيمها العليل لتأخذ منك ما تبقى من نومك .

صعدنا على سطح المسجد الحرام كعادتي أولع بالصلاة في الأماكن الخارجية المفتوحة أستشعر معها تسبيح مخلوقات الله و خضوعها ، دقائق معدودة حتى إقامة الصلاة ابتدأها الإمام بالتكبير فالله أكبر و أعظم من في هذا الكون و ما دونه فان و هالك ، خشوع عم المكان حتى همس الطيور تلاشى في حضرة آيات الله و رسالته.

بعدما أنهى إمام الحرم السبع المثاني بدأ بآيات جميلة من سورة فصلت و بدأت معها تلك الحكاية فقرأ قوله تعالى " و من آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت و ربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير " . في صوت جهوري عذب يسمع صداه ، أكمل الإمام تلك الآيات منهيا ركعته الأولى و عندما هم بالسجود سجدنا معه و سجدت معنا مخلوقات الله استجابة لكلامه أحسست بقطرات ماء على يداي و من حولي في ليلة غائمة تخفي البدر بين جنباتها .

أمطرت السماء هنا انقيادا لخالقها ، و خشع كل من سجد لله فلا تسمع الا همسا ، كل يتأمل و يسبح ، لأول مرة أرى تطبيقا لآيات الله أمام ناظري ، أدركت حينها أنني جزء ضئيل من عالم يمجد خالقه بكرة و عشيا لا يكل و لا يمل طوعا له سبحانه ، كنت حينها في عالم مختلف فيه من السعادة و التعجب و الفخر أنني أؤمن بخالق يقول لمخلوقاته كوني فتكن!.

أتأمل في تلك القطرات التي هطلت في تلك اللحظة استجابة لمن أوجد فيها الخشوع والهيبة ، أكمل الإمام ركعته الثانية و أنا ما زلت عالقة هنا أرجو أن يطول اللقاء أكثر ، أرى قطرات المطر تلف سجادتي بنقائها على أرض المسجد الحرام ، حقا لم تكن صلاة فجر عادية في كنف المسجد الحرام بل كانت تطبيقا عمليا لآيات الله و قدرته و عظمة مخلوقات فخالق عظيم يستحق أن يعبد ليلا نهارا في سويعات الفرح و دقائق الحزن بكرة و عشيا.

أنهينا صلاة الفجر ، و كأنها ثوان معدودة لم أشبع من ذلك اللقاء و من فيضه العذب ، جلست أتأمل تلك السماء ؛ غيومها و نجومها تلتف حول المسجد الحرام في موقف مهيب تنهل عليك من قطرات المطر تارة و تغمرك بنسيمها العليل تارة أخرى ، تعانق زائريه فرحا و استبشارا بمكوثهم تمنحهم سكينة ترافقهم حتى شروق الشمس ؛ شمس بداية يوم جديد نعيشه في ربوع أطهر أرض.

هنا تتأمل و تتأمل تنظر في وجوه من حولك تجدهم يضجون بالأماني و الابتهال كل بلغته ، يحاولون لملمة شتات أنفسهم و عثرات ما تبقى من طريقهم يوكلونها إلى من أنزل الأمطار ، من خشعت الأرض استجابة لعظمته فهو العظيم وحدة من قادر على تضميد ما جرح من قلوبهم .

تتأمل تارة أخرى في جدران المسجد الحرام ، تحاول أن تحفظ شيئا من زخارفها، طيب مسكها و عبق أرضها الطيبة ، ترجو منها أن تذكرك يوما ما في لقاء آخر ، تحاول جاهدا في كل صلاة أن تحفظ في ذاكرتك جزءا من ملامح ساكنيها لعلها تسعفك بشيء من ذكراها حين عودتك .

لن تسأم من التأمل في كل صلاة في علاقة آيات الله مع مخلوقاته هنا ، في كل ركعة جهرية يأخذك إمامها إلى زاوية مختلفة عن سابقاتها، إلى قصة جديدة تتحرك معها مخلوقات الله و جنده من طير إلى حجر و من سماء إلى قمر ، كلها تسجد له طوعا ، تسجد فرحا ، تنادي أتينا طائعين مستجيبين ملبيين ، فاقبلنا و تقبلنا ، يمتلأ البقاع بالسكينة و أي سكينة أعظم من تلك التي تأتي من الله و مع الله و أي جمال أعظم من أن ترى آيات الله تطبق و تزدهر تزيدك إيمانا و تسليما في الرخاء قبل الشدة .



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات نور عمر الحسن

تدوينات ذات صلة