في مكان ما، يرتجف جسد آخر، يبحث عن نظيره في عالم متناقض، وبمجرد أن يعثر عليه يُشاركه الهذيان ويتراقص معه على الأشواك ويُقيم له سهرة الأنين..
هل تفهم معنى أن تغترب دون أن تخطو خطوة واحدة من مكانك؟!
أنا فهمت!
أعتقد بأن الغربة لم تعد تقتصر على شنطة سفر وتذكرة طيران، فإن الواقع تخطى الحدود الجغرافية بمراحل..
هي زمن غير زمنك، وجوه تشبه ملامحك وأنت لا تشبه باطنها، وأفكار تجبرك على التأقلم معها وأنت أبعد ما يكون عن منطقها.. إن الغربة ليست في تغيير خريطة الوطن وتعديل ساعتك البيولوجية، فقد تشعر بها وأنت على أرضك!
إليكم كيف تسير الأمور معي.. ومع الكثير منكم..
تشغلني أحيانًا كلمة ما على غلاف مجلة ممزق، "سوبر ميكي" على سبيل الطفولة، يراها البعض عادية جدًا، لا تعبر عن أي مضمون ولا تستحق إثارة الجدل، ولكنها ألهمتنى بقوة، وضعتني على أول الطريق لاكتشاف يُبدد جهلي به وبجانب آخر في تكويني الذي يتشكل بالأيام رويدًا رويدًا، إنها لحظات فارقة في تاريخك تلك التي تخلع فيها ثوب المجهول عن الأشياء بجهودك الذاتية، والمؤسف أن إنجازي لم يكتمل بعلمي أن الصعوبة تكمن في المواجهة لا الفهم، فأغدو بكلماتي مرتبكة الحواس!
أنطقها أم أحفظها في نفسي بمأمن عن ردود البشر المزعجة؟
هل يستقبلها إدراكهم أصلًا؟!
وإذا.. كيف سيكون أثرها عليهم؟
عادية كما هي أم ستغدو النجاة لنا؟
وتمر ساعات وأنا أشكو من اضطراب وجداني حاد.. بلا علاج!
يؤرقني التردد بين أن أشرح ما يشتعل بخاطري، أو أختار ذلك الكتمان البارد..
بحسب خبرتي المتواضعة في الدنيا، أيقنت بأن السكوت ليس علامة على تمام الرضا كما يزعم البعض، فهو بنسبة كبيرة احتماء من الهجوم اللاذع وتحطيم الشغف، والبشر الآن أصبحت في ذروة توحشها!
فكرت اليوم كثيرًا قبل أن أعلنها، وقراري الأخير أنني سأتنازل عن سكوتي الليلة وأعترف بأنني تعبت من الاغتراب عن العقول، لقد سئمت حقًا من الاختباء وراء جدران الصمت القسري!
ألا يود أحدكم مشاركة ضوضائي ولو للحظات ومن باب المواساة؟!
حتى النظرة تُعاني من أوجاع الغربة!
فمن ينتبه أن لمعة العين تبوح بما تعجز الشفاه عن سرده؟
يعتبرني البعض خجولة إن حجبت نظراتي عنهم أثناء الحوار، بينما أنا غارقة بكل حرف وأنصهر فيما بين السطور انصهارًا يحرقني، ورغم ذلك، كنت أحس بهمساتهم ينعتوني بالانطوائية أو الفاشلة في التواصل البصري أو حتى بالفتاة ذات النوايا الثعبانية الخبيثة! لدرجة أنني طالني الشك حيال سلوكي مع المجتمع، حيال "نورا" التي أعرفها، فغرقت بين جدران غرفتي بلا إرادة مني!
ليتهم يعلمون أن روحي تتجلى فيها، فإن إنسانيتي تعشق الحرية، ودواخلي مكشوفة بالكامل لمن يتأملها بصدق، أحزاني وقلقي وهمومي وحبي وكل أسراري تفضحها النظرات الطويلة، بشرط أن تكون جديرة بالثقة، ولذلك ألوذ بالفرار ممن يقتنصها ويعرف كيف تُنسج اللغة مع شخصي الغريب..
وأما اليوم، أصبح من يتفاعل معي بهذه الطريقة بمثابة إبرة في كومة قش! للحد الذي دفعني إلى تسجيلهم بالأسماء في دفتر ملاحظاتي كي أعود إليهم من نوبة غربة لأخرى.. نكتة سخيفة!
الأولوية اليوم تميل لأذن تسمع قشور الأبجدية، وصوت مُقيد عن تجسيد نبضنا، وأما عن رسائل العيون، فلا تعليق.. كم هو مؤلم أن تُهمل حقيقتنا!
وذلك الإحساس.. أول ما يدق ناقوس الخطر ويُنذر باغتراب جديد!
يقولون: "أشعر بك، أعرفك تمامًا، قلبي انقسم عليك"
على أي أساس تلك الادعاءات؟
هل أبكتهم الأقدار مثلما فعلت بضلوعنا؟
قلبك ينقسم! تبدو في ظاهرها مجاملة طيبة، ولكنها على الأرجح شفقة غير مقبولة..
فكم من مرة أطلقوا على دموع ألهبت جفوني "دموع الفرحة" وهي صرخات ضاق صبرها وكل ما فعلته هو أنني أطلقت سراحها فحسب!
وأخرى يحسبونها كارثة حكمت بالإعدام على ابتسامتي، وسرعان ما يفتعلون التضامن معي لإزاحة الشجن عن كاهلي، فأصعقهم بأنها دموع "تقطيع بصل" ليس أكثر!
مهزلة بكل المقاييس!
إنهم لا يُفرقون بين قطرات دافئة، فأين الدليل على معرفتهم بما يضج في رأسي؟!
المُضحك أنني وبعد كل شيء أُعاقب على غيابي بينهم!
هيامي باللون الأسود = كئيبة
حديثي مع أفكاري = غريبة الأطوار
تلقائية أفعالي = ساذجة لم تنضج بأواخر العشرينات
حرصي على التفاصيل = "موسوسة" وقلبها في خفة الريشة
فماذا أصنع وأنا أمقت التبريرات؟
الإجابة باتت واضحة الآن.. غربة!
وفي جلسات اللوم أتراجع عن غطرستي وأقول: ربما أنا كل المشكلة!
لعل البشرية بريئة مما يعوق تدفق خطواتي ويحرمني من الانغماس وسط الزحام، وعليه فيلزمني إعادة ترتيب لأوراقي في أقرب وقت ممكن، وهي ورطة بالطبع.. فكيف نتفق وحبل الوصال بيننا مقطوع منذ الأزل؟!
أصدقائي، أنا هُنا، معكم، بشحمي ولحمي، أُرحب بالجميع ويمكنكم كسب مودتي بعقد فل وياسمين، الأزمة كلها أنني بنصف انتماء!
ولكن، ثمة أمل في نهاية المطاف، وهو الخبر السعيد في قصتي وقصة أمثالي.. انفراجة كنت أنتظرها وأنتم كذلك..
ربما بدون من لمست أناملهم أعماقي وعرفوني حق المعرفة كنت سأفقد صوابي في وضع لا يُمثلني على الإطلاق، لقد أنقذتني تلك الأرواح من ظلامي ووحدتي، وهي نعمة عظيمة أن تنتشلني في اللحظة المناسبة قبل انهياري الأبدي..
أرواح شفافة، تسمع التنهيدة بدلًا من الثرثرة، تحتويني وتُلملم بقايا اتزاني بمنتهى اللطف والرحمة، ليس تفضلًا منها، وإنما انعكاس لما تمر به أيضًا، فأنا وهي في مركب الوجود نُصارع دوامات العدم، لقد اجتمعنا من أجل هدف بعينه.. الخلاص..
نحن لم نطلب المعجزات، أحلامنا تتلخص في سلام واستقرار وتناغم، وحين تقهرنا العزلة نجد من يفتح لنا ذراعيه ويتشرب معنا الرفض والملل وكل مخاوفنا التافهة وكلماتنا العبثية، بل ونطمئن برفقته أننا بخير، ولو أصابنا الجنون في مقتل!
أنا لا أتحايل على الحقائق، أعي جيدًا أن الوجع لن يختلف اختلافًا جذريًا بأي مؤثرات خارجية، إنه العذاب، لن يتراجع ما دام اندمج بدم الإنسان، لقد تبين لي أن انسحابه مُهلك كحضوره، ولكنه يهون إن تقاسمه معنا من احترق به، على الأقل سنهدأ إن افترسنا السؤال عن المعنى.. مجرد السؤال!
فأي فرحة تُعادل أن ينجذب إليك من واجه مصيرك!
من يحتضن غليانك وحرارة كلماتك وصمتك وضعفك وغضبك.. باختصار.. هو ثوراتك التي لم تجرؤ على إعلانها قط..
ستندهش من فرط التوافق بينكما!
أخطر منعطفاتك عاش مثلها ونجا منها بأعجوبة تمامًا كما نجوت، حتى يتهيأ لك أنك تقف أمام نسخة استثنائية منك، تجربته خاصة به، صحيح، ولكن أطرافها تتشابك معك، وهو ما افتقدته معهم!
لقد أرشدك الله لمن ينقذك من شرودك، وبدورك تمد له يدك، فتتعاقب الأيام والفصول بأقل الخسائر، ليتضح لك أنك في النهاية.. لست وحدك..
دعوني أُكررها لنلتقط أنفاسنا المتمردة.. بمذاق النصر..
في مكان ما، يرتجف جسد آخر، يبحث عن نظيره في عالم متناقض، وبمجرد أن يعثر عليه يُشاركه الهذيان ويتراقص معه على الأشواك ويُقيم له سهرة الأنين..
هكذا تستمر الغربة بلا اغتراب، وهكذا نقاوم بشرف..
هل فهمت الآن؟
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات