آفة القرن الواحد والعشرين، أما آن الأوان لاقتلاع جذورها؟!

هائمًا على وجهه يمشي ، دقات قلبه تتسارع ،أنفاسه تنقطع تدريجيا، عرقه يتصبب، وخطواته متعثرة، ذلك الطفل الذي طالما امتزجت الأفكار بداخله، يوحشه الواقع تارة، واليأس صوب أعينه يتربص تارة أخرى، حين يدرك أن ذلك الخيال الذي يحلم أن يحقق فيه ذاته بات مستحيلا في ظلّ الظروف التي يعيش، لم يبالغ في مطلبه ولم يسمُ في أمانيه، فقط أراد أن يكون هو، أن يعيش كما يريد، أن يحقق ما يريد، كلُّ تلك الأفكار والأحلام والآمال المتزاحمة في مخيلته، تنطفىء لحظة التقاء عينيه الصغيرتين بمن حوله من شريعة الغاب، أولئك ممن لا يعرفون للشفقة طريقاً، بل الرحمة في صدورهم نازعت حتى خرجت من ذلك الضيق، كلمات جارحة هنا ونظرات ازدراء هناك، شفاه تتحرك وتمتمات ترتطم بآذان ذلك الصغير لتكمل طريقها الجارح إلى قلبه وتخدش تلك البراءة الكامنة في أعماق صدره، التي ما كانت لتنطمس يوما ما لولا وجود أشباه البشر أولئك، نعم، قد أمضت تلك الكلمات ما أمضت في نفسه، وتركت تلك النظرات ما تركت في مخيلته، وكبرت تلك السخريات، حتى باتت صبّارة شائكة له ولمن حوله، كبر ذلك الصغير، وآن له أن ينغمس في مجتمعه الذي يعيش، فهل سيبقى صامتا يعاني تلك المآسي والجراح؟ أم سيسلك مع من حوله المسلك ذاته الذي آذى طفولته وشوّه براءته ليقي نفسه وحشية هذا العالم؟ "التنمّر" ذلك القبيح ذو الرائحة النتنة الذي طالما أفسد علينا حلوَ الأيام وكدّر علينا صفوَتها...هُنا أسلّط الضوء وأطلق العنان لحروفي في المقالة التي بين أيديكم.

خُلِقَ كُلٌّ مِنّا على هيئة وشاكلة مختلفة، كل منّا له شخصيته التي لا شكَّ أن للبيئة المحيطة النصيب الأكبر في تكوينها، ولا ريبَ أيضا بأن اختلافنا سُنّة حتمية في هذا الكون، تجعلنا نكمّل بعضنا بعضاً في جوانب الحياة على اختلافها، لا يوجد من هو كاملٌ على هذه الأرض، ولا يحق لأحد أن يدعي المثالية والكمال، فالاختلاف بيننا حَقّ، ونقاط القوة لكل منا حقّ، ونقاط الضعف كذلك حقّ، فلماذا الاستعلاء على الآخرين والانتقاص مِن قدرهم؟ ما سبب آفة التنمّر تلك التي باتت منتشرة في مجتمعنا كالنار في الهشيم؟ أهو الاقتناع بصحة وجودها كقناع نخفي ضعفنا وراءه؟ أم هي سلوك متبع كوسيلة للدفاع عن النفس خشية أن نقع ضحايا لها؟ أهي إحدى قوانين شريعة الغاب التي أضحينا نعيش؟ أم أن شعارنا أصبح في هذه الحياة "البقاء للأقوى" ؟

ذكرتُ سابقا أن لكلّ منا شخصية مختلفة، لها مسببات ودوافع نبعت من البيئة المحيطة، التي ساهمت بصورة كبيرة في تكوينها، وقطعا هنالك نواة كانت هي المسبب والدافع الأول، تلك التي تحيط بالإنسان لحظة ولادته، منذ أن شقّ النور طريقه إلى بصره، نعم، إنها نواة المجتمع بأكمله إنها "الأسرة"، التي هي بمثابة المُزارع الذي يحرث الأرض الجدباء، ثمّ ينثر الحَبّ على اختلاف أنواعه في أرجائها، فيعود فيما بعد ليقطف ثمار ما زرع ، وهذا تماما ما يحدث فتزرع الأسرة في نفس طفلها ما لا يعد ولا يحصى من المواقف والأفكار والمبادىء، جُلّها وصغيرها، ليقطف المجتمع في ما بعد حصيلة ما زرعته الأسرة طيلة السنين الأولى لطفلهم.

كثير منّا لا ينتبه لأدق التفاصيل في حياة طفله أثناء تكوّن شخصيته، في سنينه الأولى على وجه الخصوص، ثم نستنكر فيما بعد تصرفاته والأطر التي تجسدت بها شخصيته، إنّ زرع فكرة الاختلاف وتقبله عند الطفل أمر ضروري لا ينعكس فقط إيجابًا على من حوله في المستقبل، بل يعود عليه بالنّفع وعلى قوة شخصيته بالدرجة الأولى، حين يشعر أنّ الاختلاف سنة وأنّ قبول الآخر واحترامه فريضة، حينها يقدّر ذاته ابتداء و تلقائيا يظهر ذلك على تعامله مع من حوله فيما بعد، وهذا مسؤولية الوالدين بالدرجة الاولى، كم من طفل نام جريح القلب دامع العينين نتيجة كلمات خدشت براءته وطفولته دون أن يكترث الأهل لذلك؟ كم مرة قارن الوالدان طفلهما بمن حوله من الأطفال الآخرين؟ وكأنهم يضعون نموذجا موحّدًا معتمدا للطفل النموذجي والمثالي في هذا الكون، كم دمرت تلك التصرفات أحلام الطفولة الهشة؟ التي ما زالت وليدة اللحظة، تحتاج إلى سقاية من نبع الحكمة والنضج للوالدين حتى يشتدّ ساعدها، كم حطمت تلك الكلمات والأفعال حاجز الثقة بالنفس لدى الطفل؟ سواء كانت انتقاصا من مستواه الأكاديمي أو شكله أو وزنه أوطوله أو ملابسه أو حتى مشيته وطريقة كلامه أو اهتماماته وهواياته، كلّ ذلك كان حتميا لهدم جدار الثقة بالنفس لديه.

غالبا ما يحدث أحد هاذين السيناريوهين ولا ثالث لهما ، إمّا أن يصبح الطفل ضعيف الشخصية منعدم الثقة بالنفس، فيقع لقمة سائغة لمن حوله من المتنمرين ويكبر معتادًا على ذلك، و إمّا أن يصبح لديه ردة فعل عكسية، فينتقص ممَن حوله ليرضي شعوره بالفوقية والأفضلية على من حوله، في سبيل حماية نفسه من تنمّر مَن خبُثَ الزّرع فيهم ابتداءً، وكلتا الحالين، المسؤول الأول والأخير عنهما هي الأسرة، فهي المصنع وهي المزوّد الرئيس بشرائح المجتمع التي بها تستقيم الحياة أو تندثر، بها يعمّ التكافل أو تتفشى الوحشية، بها تترسخ أواصِر المحبة أو يتغلّل الحقد في النّفوس، إنّها الأسرة ابتداءً، إنّها النواة الصغيرة التي تساهم في وسم هذا المجتمع بسِماته وطِباعه .

لو جُبنا الأرض بما رحبت لوجدنا حتى أنّ شديد البأس فيها، مَن لا يتأثر بكلام وأفعال مَن حوله، يجولُ أيضا في نفسه شيء مِن الضّيق، لحظة مواجهة كلماتٍ جارحة أو نظرات ازدراء موجهة إليه، فهذه المشاعر الفطرية التي جُبِل عليها الإنسان، مِن المهم أنْ نُربّي أبناءنا على قوّة الشخصيّة والثّقة بالنّفس، ولا شك أنّ لذلك الأثر الكبير في مضيّهم قُدُما في حياتهم وإعراضهم عن الأمور سفاسِفها، ولكن هذا لا يكون بأساليب غير تربوية محطمة لشخصيتهم وثقتهم بأنفسهم، فنفسد حياتهم وحياة من حولهم بما نُمارِس معهم مِن تصرفات غير مسؤولة، كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيته، ولكلّ منّا دور رئيس في بناء ثقافة الثّقة بالنّفس لدى أبنائه، والتي لا تتعارض إطلاقا مع ثقافة قبول الاختلاف، واحترام الآخرين، فكلّ ما ذكرت يصُبّ في الوعاء ذاته، وعاء الإنسانية والتّلاحم الاجتماعي، الذي لن ينام أحد منّا قرير العين، مالم يَغترِف منه غَرفة تُنجيه من آفة التنمّر وعواقبها الوخيمة تلك.


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إبداع مُلهِم ...

إقرأ المزيد من تدوينات مُثنّى ماهِر عتّال

تدوينات ذات صلة