"آفة هذا الزمان هو قضاء الوقت في الحديث بعيدا عن العمل والدعاء بعيدا عن الاتقان، حتي تحول معظم الناس إلي واعظين دون أن يكونوا قدوة في العمل والإبداع"
تخيل نفسك تعيش في مكة وأنك واحد من أهل قريش عندما نزل الوحي علي الرسول. تخيل نفسك وأنت تسمع عن دين جديد ورسول يدعوا لهذا الدين. ماذا أنت بفاعل. أسمعك الآن وأنت تهمس قائلا بالطبع سوف أتبع سيدنا محمد وأكون من المجموعة القليلة من أهل قريش الذين اتبعوه في بداية الدعوة ولو أدي الأمر إلي تعذيبي من أبو جهل أو أبو لهب. ورغم الصدق الذي يبدوا في عينيك ومع أني لا أشك في انطباعك واجابتك هذه، إلا أن الإجابة علي أرض الواقع هناك من المؤكد صعبة وتستدعي أن تكون هناك بالفعل لتجيب.
أو تخيل نفسك من الذين أتبعوا سيدنا محمد والذين طلب منهم الهجرة من مكة إلي المدينة. هل ستترك بلدك وموطنك بمكة وتخاطر وتهاجر إلي المدينة. أسمعك وأنت تهمس في نفسك بالطبع سوف أترك كل شيء ورائي من أهل ومال ولا أخاف من جاه أو سلطان وسوف اهاجر إلي المدينة مع الرسول. ومع أني أصدق اجابتك علي هذا السؤال ونيتك الصادقة، إلا أن الإجابة الحقيقية تستدعي أن تكون هناك بين أهل قريش لكي تكون متيقنا من اجابتك وأنت وسط الأحداث علي أرض الواقع لأن الحديث يختلف عن الواقع ولأن الموافقة بأثر رجعي بعد انتهاء الأحداث غير الموافقة وأنت وسط الأحداث والخوف والأهوال.
وتخيل نفسك تعيش في المدينة مطمئن البال ومنعم وتذهب كل عام إلي مكة وتبتاع وتشتري ما تشاء وتعود هانئا بما ابتعت واشتريت من تجارة رائجة. ثم وأنت في أحد الزيارات تسمع عن هذا الدين الجديد والرسول الجديد الذي يهاجمه قومه وهو وسطهم يتلقي الأذي من كل جانب. ماذا أنت بفاعل. هل تتجنب الرسول وما يلاقيه لتتجنب المشاكل مع أهل قريش ذو المنعة والقوة والسيطرة أم تذهب إليه وتسمع منه كلام الله بنية اتباعه ثم دعمه ومبايعته ودعوته إلي الهجرة الي المدينة لتكون من بين الأنصار معضدا له وتابعا بكل ما أوتيت من مال وجاه وعز وسلطان . بالطبع أسمع همسك وأري عينيك وهي تلمع بالإجابة بنعم. ومع أني أصدقك القول ولا أشك لحظة في صدق اجابتك، ولكن لا بد أن تكون هناك وسط الأحداث لكي تتأكد من إجابتك. فسهل علي النفس الإجابة علي أي سؤال بأثر رجعي عن الاختبار الحقيقي وهي وسط الأحداث الثائرة.
وتخيل نفسك وأنت حديث العهد بالإسلام وهاجرت مع المهاجرين أو أنك من بين الأنصار، ثم يُطلب منك القتال ضد أهل الكفر، فماذا أنت بفاعل. هل ستكون متحمسا للقتال من أجل الدين والرسول، أم سوف تتردد في داخلك مخافة الجروح أو الموت. سؤال كبير ولكني أري إجابتك عليه جلية وهي نعم وأهلا بخوض المعارك بهمة عالية، أري هذا الحماس في عينيك وعلي شفتيك والحماس في ملامحك. وسوف تقدم الدليل علي الاجابة بأن مؤمنين اليوم لهم نفس نية وعزم الاوائل من القتال في سبيل الدين وذلك كما حدث في السادس من أكتوبر 1973 من حماس منقطع النظير من جنود مصر الاوفياء وهم يخوضون المعارك مع العدو الإسرائيلي أنذاك.
وسوف تتعدد أسئلتي لك علي جميع الأصعدة التي تعرض لها المسلمون الأوائل وقاموا بها بإخلاص شديد من قتال داخل وخارج حدود مكة والمدينة حتي استطاعوا من فتح بلاد كثيرة وواسعة امتدت حتي الصين والهند شرقا وشمال افريقيا واسبانيا وبلاد المغرب العربي غربا. رجال كانوا يعملون اكثر مما يقولون، كانوا يقضون معظم سنوات العمر في عمل وقتال وترحال تاركين ورائهم الأهل والأحباب في سبيل نصرة الحق والدين. واستمر هذا النهج للمسلمين الأوائل فترات طويلة، بما لهم وما عليهم مع وجود الهمة والعزم والنية الصادقة، كان عملهم يسبق قولهم ولذلك حققوا انتصارات ونجاحات كبيرة في السلم والحرب والعلم والفن والأدب والسياسة والاجتماع.
ولذلك كان السر وراء نجاح الأوائل هذا هو العمل وليس الكلام المعسول، والإخلاص وليس الفهلوة، والاتقان والابداع وليس السطحية وتسديد الأوراق، والتنافسية الصحية وليس الضرب تحت الحزام، والشفافية وليس الواسطة والمحسوبية.
إن آفة هذا الزمان هو قضاء الوقت في الحديث الفارغ بعيدا عن العمل الشامل والدعاء بعيدا عن الاتقان، حتي تحول معظم الناس إلي واعظين دون أن تكون لهم بصمة بين الناس ودون أن يكونوا قدوة في العمل والإبداع. فمع توفر التكنولوجيا بكل انواعها حتي اصبحت في متناول الجميع إلا أن استخدام هذه التكنولوجيا يقتصر علي نقل المعلومات من هنا إلي هناك ومن هناك إلي هنا. أصبح المنتج الفكري ضحل وقليل اللهم من أناس مازالوا يؤمنون بدور الفرد في تطوير المجتمع من خلال انتاج حقيقي مبدع في الفن والثقافة والأدب والعلم والطب والهندسة وكل مجالات الحياة.
وأنا اتحدث هنا عن الطبقة المهنية والمثقفة التي يجب أن يكون لأصاحبها دور بازغ في تنوير وتطوير المجتمع بأدوات مختلفة. ومن أكثر الطبقات التي تستطيع التأثير بل أن أحد أدوارها الأساسية والوظيفية هو التأثير في المجتمع هي طبقة أساتذة الجامعات. فكل أستاذ جامعة في تخصصه أيا كان تخصصه هو منارة علمية ومدرسة متنقلة ليس فقط في حرم الجامعة ولكن في المجتمع بكل طبقاته. فاذا كان امام المسجد يؤثر في الناس بخطبة الجمعة فأستاذ الجامعة يؤثر كل يوم في طلابه سواء قبل أو بعد التخرج. ولذلك لا بد وأن يكون أستاذ الجامعة منارة في المجتمع ولو من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. وكل الخطأ أن يتشابه منتج الأستاذ الجامعي مع سلوك الاخرين علي هذه المنصات المجتمعية التي يجب أن تكون له بوق يتحدث منه بعلم مبسط وخشبة مسرح تنويري للناس وزاده علمه المتجدد. نعم يجب أن يفرز انتاجا فكريا يعلم في الآخرين. فإن لم يقم أستاذ الجامعة بذلك فمن يقوم.
ليتنا نعمل ونعمل ونعمل وننتج وننتج وننتج كما فعل الأوائل ثم ندعوا وندعوا وندعوا لعل الله يقبل العمل والاخلاص فيه والاتقان. فكيف لمضيع الوقت قليل العمل والانتاج والابداع أن يدعوا الله. أقل مايوصف به هذا الدعاء وهذه الموعظة أنه أسلوب سلبي للتقرب إلي الله، ولكن الله يحب العبد القوي المنتج المبدع والمخلص ولا يحب العبد المتواكل. فالله يعمل مع من يعمل. فعلينا أن نحمد الله أننا مسلمين وعلي أننا ورثنا كل ماتركه المسلمون الأوائل من كنوز علمية وثقافية دون أن نخوض المعارك مثلهم أو نتعرض للتحديات والصعوبات التي واجهوها. فأقل مايمكن عمله هو الحفاظ هذا الإرث الكبير وتطويره وإضافة انتاجنا الفكري في كل نواحي الحياة علي أن يكون انتاجا مبدعا ومبتكرا.
هذه شهادة علي العصر كان لا بد لي أن اشهد بها علي نفسي قبل الآخرين غيري. وليوفقنا الله إلي طريق العمل والإنتاج والإتقان والإبداع والدعاء. فبدون هذا الطريق فنحن في هلاك أمام الأمم الأخري. ومؤكد سوف يحاسبنا الله علي الدعاء بدون العمل ولكنه مؤكد أنه سوف يجازينا علي الدعاء لو كان مقرونا بالعمل. وكل منا مسئول بينه وبين نفسه والناس علي المضي في هذا الطريق، طريق العمل والابداع والاتقان.
مع خالص تحياتي
ا.د. محمد لبيب سالم
أستاذ علم المناعة كلية العلوم جامعة طنطا
وكاتب وأديب وعضو اتحاد كتاب مصر
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات