"هذا المقال صرخة مكتومة عن تجارب شخصية للدعوة إلي المهنية التي أصبحت ظلا يترنح بين أكوام الكلام والمظاهر"


المهنية أو الاحتراف في العمل صفة حميدة يتيح لك أداء دورك بأفضل ما لديك. يساعدك على إقناع الآخرين وإلهامهم. ويمنحك شعورًا عميقًا بالرضا وتقدير الذات. ويقول المثل “الاحتراف ليس الوظيفة التي تقوم بها، إنما هو الطريقة التي تؤدي بها الوظيفة". ويحقق الاحتراف معايير عالية، سواء بشكل معلن أو "خلف الكواليس" مهما كان دورك أو مهنتك.

ولعض أماكن العمل "قواعد" مهنية خاصة. قد تكون معلنة، مثل قواعد الزي المتفق عليه، أو سياسة لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي. وهناك بعض القواعد والتوقعات الأخرى غير المكتوبة ومتعارف عليها، ولكن يمكن أن تكون بنفس الأهمية - مثل ما يعتبر سلوكًا مهنيًا في الاجتماعات، أو حتى كيفية تخصيص الأشخاص لمكاتبهم. وهناك خيط رفيع بين المهنية والإتقان. أما المهنية فهي التي تحفظ المهنة وتطورها في ابداع مستمر بناء على مقاييس دولية وليس عن اجتهادات شخصية. أما الاتقان فهو سلاح ذو حدين حسب السمات الشخصية, حد مفيد ويؤدي إلي نتائج إيجابية وحد قد يؤدي إلي نتائج في غاية السلبية قد تصل إلي الاكتئاب.


ودائما ما تؤدي المهنية إلي سلام نفسي ورضاء من صاحب المهنة أيًا كان طبيبًا، أو مهندسًا، أو مدرسًا، أو قاضيًا، أو موظفًا في ديوان حكومة أو قطاع خاص أو صاحب مهنة كالميكانيكي والنجار والحداد والحلاق وغيرها من المهن. وعلي الجانب الآخر تؤدي المهنية إلى اسعاد صاحب العمل وبالطبع إلي سمعة العمل وتسويق منتجاته. ولذلك فالمهنية هي الحاكم بين مؤدي العمل وصاحب العمل من خلال تطبيق كود المهنة العملي والأخلاقي. والمهنية تتطلب بيئة عمل صحية وقواعد مهنية متفق عليها ولذلك فهي لا تتطلب علاقات شخصية، بل تتطلب علاقات عمل مجردة من "النفسنة" أو الحقد أو التنافس غير الشريف، بل تتطلب فقط علاقات عمل واضحة المعالم بأسلوب مهني.

أما الإتقان فهو أيضا مثل المهنية في كل شيء إلا أنه قد يؤدي إلى الوسوسة المهنية طبقا للسمات الشخصية لصاحب المهنة أيا كانت المهنة. فالذي يبحث عن الإتقان عادة لا يكون راضيا عن ناتج عمله ولا نواتج من يعملون معه مما قد يجعله يعيد ما يقوم به من عمل عده مرات. وغالبا ما يشعر أيضًا بالتقصير فيما يقوم به من عمل، كما أنه لا يثق في جودة أعمال الآخرين حوله معه مما يجعله يعيد ما يفعلونه فيتسبب ذلك في ضياع الوقت والمجهود. وقد تؤدي كل هذه الأعراض الجانبية للإتقان عند بعض الناس إلى توتر نفسي وقلق وعدم رضاء عن الذات خاصة في المجتمعات شديدة التنافسية. وقد يؤدي أحيانا إلى الوسواس المهني والاكتئاب والانعزالية.


ولذلك لا بد من تعليم العاملين والكوادر الخاصة وأصحاب المهن ما هي المهنية وما الفرق بينها وبين الاتقان حتى لا يقصر صاحب المهنة والعمل فيما يقوم به وحتى تتطور المهنة ولا يصاب بالوسواس المهني وما يصاحبه من قلق وتوتر. كما يجب تدريس هذه المفاهيم الأساسية للطلاب في جميع المراحل التعليمية واعطاء أمثلة على المهنية والاتقان وأهمية كل منهما في الحصول علي منتج بمواصفات دولية أيا كان المنتج، وكذلك خلق حالة من الابداع والابتكار تؤدي إلى تطوير المنتج وخلق فرص الوصول إلى منتجات جديدة بصفات جديدة.


المهنية والاتقان هما أساس نهضة الشعوب وهما أساس ضمان تطبيق القواعد العملية والعلمية والاخلاقية واستقرار المجتمع ككل. فالمهنية لا تجعل فرد ما في المجتمع قلق على ابنه في المدرسة ولا على نفسه عندما يكون في حاجة إلي مستشفى، أو محكمة أو شركة أو قسم شرطة أو كلية أو مدرسة أو حتي نظافة الشارع لأنه مطمئن أن كل من يعمل في هذه الأماكن يتصف بالمهنية.

إن سبب تخلف الشعوب هو البعد عن المهنية واعمال ما يسمي "تستيف الاوراق" أو الميوعة المهنية التي تؤدي إلى فقد روح كل منتج سواء كلامي أو كتابي أو عملي. كما أن تستيف الأوراق يؤدي إلى وجود حالة من الجهل والفوضى المهنية وحالة عامة من عدم ثقة، بالإضافة إلى خلق الطريق للجوء إلى الرشوة والمحسوبية والبعد تماما عن التنافسية المهنية مما يأخذ بالمجتمع مع مرور الوقت إلى مجتمع مشوه لا يتصف بأي صفات حضارية ولو امتلك كل أدوات التكنولوجيا التي يصنعها الآخرون. بل سوف تتحول كل هذه الأدوات التكنولوجية التي يستخدمها إلى نقمة لغياب مهنية الاستعمال وغياب اتقان التطبيق في ظل غياب الرؤية والرسالة والأهداف والحكمة من وراء صناعة واستخدام التكنولوجيا.

والأمثلة على المهنية والاتقان طويلة وليس هنا مجال لذكرها. وقد تتمثل في أمور بسيطة، ولكنها مهمة مثل كيفية كتابة جملة بسيطة بطريقة صحيحة. وقد تتمثل في كيفية طريقة اصلاح عطل سيارة بطريقة مهنية، أو التحدث إلى الجمهور بأسلوب مهني، أو إخراج عمل فني، أو أدبي، أو علمي بأسلوب مهني أصيل.

ومن أخطر المهن حاليا التي تؤثر في الكبير والصغير وتسري كالنار في الهشيم هي الفن والاعلام خاصة في غياب التعليم في المدارس. فالناتج من هذه المهن أصبح مشوها والناتج من التعليم أشد تشوها، والسبب ببساطة شديدة سببه أن هذه المهن الثلاث لا تطبق المهنية والإتقان في عملها مما يجعل المُنتَجْ للاستهلاك المحلي فقط وغير مَرضي عنه من عامة المجتمع.

ومن أكثر المهم تأثرا أيضا بفساد المهنية البحث العلمي والذي يتطلب حالة من المهنية العالية في كل مراحله من الفكرة إلى التطبيق. ولكن وللأسف هناك حالة من الميوعة المهنية في البحث العلمي شاملة مرحلة الكتابة العلمية وتصميم النتائج واختيار مواضيع البحث التي تتعرض إلى تحديات صناعية ومجتمعية حقيقية. وبالطبع تؤدي هذه الميوعة العلمية إلى كم بلا كيف، وبلا فائدة وبلا أثر.

علينا أن نعلم أولادنا المهنية والإتقان الصحي. وعلينا أن نعلم وندرب ونلزم كل أصحاب المهن العامة والخاصة كيف تكون المهنية وكيف يكون الاتقان السليم. علينا أن نعطي مساحة أكبر لتعليم المهنية والاتقان والتفكير الإبداعي الخلاق والابتكار حتى ولو كان ذلك على حساب تعليم العلوم.

نحن بالتأكيد نحتاج إلى اعادة نظر في تعليم أولادنا وأنفسنا العديد من المفاهيم التي ترسخ أهمية التعليم والعلم والمعرفة والفن، والآداب، والرياضة، والتكنولوجيا. مفاهيم توسع المدارك لتنظيم فكر العقول. حينئذ سوف يخلق ذلك أجيال جديدة تتقن عملها بطريقة سليمة، وإلى مجتمع يعمل جنبا إلى جنب لإحداث نهضة قومية تتناسب مع ما كل ما تقوم به القيادة السياسية من مجهود كبير في تطوير المجتمع.


فهل آن الأوان أن نسلك الطريق إلى المهنية والاتقان بعيدا عن تستيف الأوراق، المهنية بإتقان والاتقان بمهنية.

تحياتي

ا.د. محمد لبيب سالم




ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات د. محمد لبيب سالم أستاذ جامعي واديب

تدوينات ذات صلة