"تعجب أين كان كل هذا الحب وكل تلك المشاعر وكل هذه النظرات، وتلك اللهفة. إنه القدر الذي يرتب الأحداث ويقلب المشاعر"



ظلت تروح وتجيء في غرفة نومها بين صورة الزفاف المعلقة علي الجدار منذ ستة أشهر وبين قميصه المعلق علي الشماعة والذي مازالت تشم منه رائحة عرقه الممزوج بعرقها منذ مساء الليلة الماضية. أصابها التفكير بتوتر وقلق سيطر علي روحها، حتي جعل يديها تهتز وترتعش وكأنها ممسكة بسلك كهربائي مكشوف.فبعد ستة أشهر من الزواج التقليدي لا زالت لا تعرف هل تحبه بقلبها أم مجرد أنها تكره الانفصال عنه. هل تستمر معه رغم أنها غير متأكدة من حبها له، أم الأفضل أن تطلب الانفصال عنه، أو أن تأخذ هدنة حتي تتأكد من مشاعرها تجاهه. ظلت تروح وتجيء كالطفلة الخائفة من شيء تجهله. فكرة ترجح البقاء والتعامل مع الواقع لعل شيئا كبيرا يحدثه القدر، وفكرة ترجح ضرورة الانفصال وكفي.


بعد أن هدها ذهابها واياباها كالبندول، توقفت في منتصف الغرفة لتنظر إلي ملامحها في المرآة، التي يحب كثيرا أن يأخذها بين أحضانه وينظر إلي المرآة وهو بهمس في أذنيها "أنظري يا شذي إلي هذه الأميرة في المرآة، إنها حبيبتي، زينة قلبي التي أهداني بها القدر". ثم تتذكر وهي تنظر إلي عينيه في المرآة بلا شوق تاركة شفتاه تغوص في خديها وشفتيها باحثا عن حبه وعشقه. وفي كل مرة يفعل ذلك، تترك له نفسها وتسلم له خديها وشفتيها يرتشف منهما ما يشاء. ولكنها لم تتذكر أن اعطته مرة قلبها، الذي مازال معلقا في صدرها ولا تعرف لمن تنبض دقاته. وبالرغم من أنه يشعر كل مرة يغازل في شذى مشاعر الأنثى والحبيبة والعشيقة والزوجة أن بوصلة قلبها لا تميل إلي قلبه، إلا أن الأمل مازال يحدوه أن تحين اللحظة الحالمة يوما ما، طالما لا ترفضه، وطالما هو دائم المحاولة في التعبير عن حبه، ودائم المحاولة في إخفاء ما يشعر به من جفاء يختبئ في اعماق قلبها ولا تعلن عنه .


أحمد شاب وسيم، طيب القلب، وبصحة طيبة، ويتمتع بسمعة طيبة يرتاح لها ويصدقها كل من يتعامل معه عن قرب أو بعد. كل شيء فيه طيب، هندامه ولسانه وسلوكه. هو وحيد والديه، وبار بوالديه. لم يكن لديه أي علاقات عاطفية قبل أن يخطب شذى، رغم عمره الذي تخطي الثلاثين. فهو لا يعرف كيف يغازل، ولا كيف يجذب الجنس الآخر رغم كل الإمكانات المادية و الذكورية لديه، ورغم جمال مظهره وهندامه، ورغم فحولته ورجولته. لا يعرف كيف يتعامل مع الأنثى كحبيب وعشيق رغم فورة الرومانسية التي يخفق بها قلبه الطيب. كم نصحه أصدقائه أن يقرأ عن كيفية التعامل مع الأنثى وكيف يًعبر عن حبه وعواطفه الجياشة، ولكنه أبدا لم يستمع لأنه يؤمن بأن من يرتبط بها قلبه عن رغبة مشاعر، سوف تكون له درسه الخصوصي في الرومانسية، بل ستفجر فيه آبار الرومانسية.شذي أنثي في المظهر والمخبر والحديث. تربت منذ طفولتها علي أنها الأنثى الأولي.


نمت فيها الأنوثة حتي تفجرت في المرحلة الجامعية، ورغم كثرة الخطاب، إلا أنها كانت تنتظر هذا الحب الكبير، الذي يملأها كلها فتغوص فيه حتي أذنيها، وتشربه حتي تسكر بهذا الحب، وتنام وتصحوا عليه. أنثي كل خلية فيها تفوح منها الرومانسية. تمنت أسرتها أن توافق علي أحد الخُطاب الذين تقدموا لها، وكلهم امتيازات مادية واجتماعية ووظيفية. إلا أنها ظلت ترفض علي أمل أن يهبط لها من السماء هذا الرجل الذي يغمرها برومانسيته ورجولته وشبابه وحديثه المعسول والممزوج بنظرات عينيه الحانية. ويشاء القدر أن يجتمع الجميع علي هذا الشاب المعروف بخلقه ووسامته وسلوكه وحلاوة حديثه.


جلست معه مرة شعرت فيها بطيبته ولكنها لم تشعر أبدا بلهفتها عليه. ظل جميع افراد الأسرة وكذلك أصدقائها يضغطون عليها بالإقناع وهي ترفض. وبعد تفكير ومناقشات، واصرار منه، وصبر علي الارتباط بها، لان عقلها ووافقت علي الخطوبة علي أن يكون قرار الزواج حسب ما تقرره مشاعرها هي. تنفست الأسرة والأصدقاء الصعداء، ووافقوا علي شرطها علي أمل أن تشعر بحبه وتدرك قيمة طيبته مع الأيام.مر وقت الخطوبة سريعا ولكن لم تشعر شذي بتلك الرجفة التي تهز مشاعرها، ولا بذلك الانجذاب الذي يأخذها كلها في أحضانه وكأنها غائبة عن وعيها.


لم تشعر بنظرات عينيه الحانية وهي تخترق كل خليه في جسدها فتجعلها قطعة شوكولاتة يلتهمها كما يشاء. مازال في خيالها ذلك الشاب ذو العيون العميقة الساحرة القادرة علي غزو قلبها واحتلال طبول دقاته بالنظرات والكلمات واللمسات والهمهمات. ولكنها لم تشعر بأي من هذه الخيالات، رغم كل الطيبة والحنان والاهتمام الذي كان يصبه أحمد بين يديها وفي أذنيها وعينيها في كل مرة يتقابلا فيها. وكان قرارها انهاء الخطوبة ورفض الزواج علي أمل تلتقي بحبيب الخيال.


جن جنون أسرتها بسبب قرارها بعد مرور عاما كاملا من الخطوبة، والتي لم يعكر صفوها سوي شكواها الغير مبررة رغم كل الطيبة والرجولة والعذوبة والاهتمام منه، ورغم تحمله مضايقاتها وعنادها ودلعها واسقاطاتها. شعر والدها بغصة شديدة في القلب، فهو شاب لا يُعوض وهي فتاة تفكر برغبة الأنثى وليس بعقلها ولا حتي بقلبها. أُصيب والدها بوعكة صحية شديدة أرجعها الجميع لموقفها. وكانت هذه الوعكة هي السبب الوحيد الذي جعلها توافق علي الزواج من أحمد رغم أنها غير متأكدة من مشاعر قلبها. وتم الزواج وفي قلبها غصة لتنازلها عن حبها الحالم. شعر أحمد بأن الله منحه نجمة من السماء لا بد أن يحافظ عليها لتظل دائما مضيئة ومشعة ولو كلفه ذلك حياته.


توقفت أمام المرآة تحملق في ملامحها المتوترة، محاولة أن تصل إلي قرار لعلاقتها معه. فهو زوج مثالي ويحبها و بدأ يتعلم كيف يحبها، وكيف يعبر عن مشاعره ببعض الرومانسية. وهي بالفعل تقدره كزوج، ولكن مازالت معاني الحب العميق وعشقها الدفين بعيدا جدا هناك في قلبها لا يتحرك. وقفت أمام المرآة متعجبة كيف تراه بجوارها بملامحه الطيبة وذراعيه تلتحف خصرها وهو يحتضنها بحنان بالغ. كيف تراه بجوارها هكذا في المرآة رغم أنه غير موجود معها، ورغم تفكيرها في الانفصال عنها.


تعجبت كيف أن قلبها يطلب الانفصال وعقلها يريد الاستمرار. شعرت بأنها انشقت إلي نصفين، قلبها نصفين وعقلها نصفين، ومشاعرها نصفين. شعرت حتي أن اسمها وعمرها انشق كل منهما إلي نصفين، ولا تدري ما إذا كانت هي السبب أم هو القدر. ولذلك لا بد لها أن تأخذ قرارا يريح أحد النصفين وإن تجمد النصف الآخر.وبعد لحظات غاصت فيها في أفكارها، سمعت جرس الباب لا ينقطع ويد تدق علي الباب ولا تتوقف. شعرت برعب اختلط بالقلق الذي تشعر به حتي أصبح قلبها كالخرقة البالية.


جرت نحو الباب بسرعة وقلبها يرتجف من الخوف من سماع خبر عن والدها لأنه مازال يعاني من الأزمة الصحية التي ألمت به وكانت هي السبب الرئيسي في زواجها. جرت مهرولة نحو الباب متمنية أن يكون والدها بخير. نست أفكارها وقلقها من قرار الاستمرار مع زوجها أو الانفصال عنه بلطف. وملامحها تغوص في وجهها من الخوف والقلق، فتحت الباب بلهفة لتري ما الخبر . فوجئت بوالدها أمامها وهو بكامل عافيته ولكن وجهه متجهم وحزين وقد امتلئ وجهه بخطوط الطول والعرض كلها قلق.


صرخت في وجهه ، ماما بخير يا بابا.


رد بهدوء ومازال الحزن العميق في عينيه، نعم يا شذي، ماما بخير واخواتك بخير.كل الأسرة عندنا بخير.


إذا ماذا هناك وراء هذا الهلع علي الباب وهذا الحزن العميق في عينيك.


وضع راحتيه علي كتفيها، ونظر في عينيها برفق ليهمس في حزن، شذي أحمد في المستشفى بسبب حادثة سيارة.


وما أن سمعت شذي تلك الكلمات حتي شعرت بخواء يغمرها، وبتيار من الرجفة يهزها بعنف. شعرت أنها تريد أن تري أحمد الآن وتحتضنه بقوة وتضع قلبه في قلبها وتقفل عليه. شعرت بأن نصفيها التأما وأن عقلها تصالح مع قلبها. أصبحت لا تري الآن سوي صورته وهو بجانبها في المرآة، يلف خصرها بذراعيه ويقبلها من خديها برفق وحنان، وعينيه عليها في المرآة. تمنت لو يكونا سويا الآن في غرفة النوم أمام المرآة وتعكس هي الصورة، تحتضنه وتحيط خصره بذراعيها وهي تقبله علي جبينه ورأسه وخديه وشفتيه ، قبلات يسمعها قلبه فيهدأ ويرتاح ويسعد بها زوجة وحبيبة.

شذي، هل سمعتي ما قلته عن أحمد. افاقت شذي من اللحظة التي اخذتها بعيدا.


ردت بصوت مملوء بنغمة جديدة علي والدها ، نعم يا بابا سمعتك، كيف حدث ذلك، وهو لم يتصل بي طوال اليوم، وكيف عرفت أنت بالحادثة ومن اتصل بك، وماذا قالوا لك. عن حالته. ارجوك دعنا نذهب الآن وفورا لنطمئن علي أحمد.


اندهش والدها من سيل الاسئلة ومن اهتمامها البالغ بأحمد لأنه يشعر من فترة ان قلبها ليس كله مع زوجها .ورغم اندهاشه ورغم قلقه علي أحمد، إلا أنه سعد كثيرا بهذا القلق البادي في اسئلتها وفي ملامحها وفي عينيها.تسلل اليها شعور جديد وغريب لم تتوقعه أبدا.


شعرت وكأن أحمد هو هذا الرجل الذي ليس مثله رجل، رجل يحمل في قلبه قلوب كل الرجال. كيف تسلل إلي قلبها هذا الشعور، لا تعرف. تعجبت وهي تجري مهرولة من الخوف من فقدان أحمد ووالدها يحاول اللحاق بها. تعجبت كيف للقلب أن يتحول فجأة. كيف للمشاعر أن تفور فجأة هكذا. كيف للخيال الجميل أن يتجسد في الواقع الذي كنا نزهده. كيف لي أن أصبح متيمة به في غمضة عين، في لحظة فاصلة وأنا الذي كنت أفاوض نفسي في حياتي معه منذ دقائق. كيف حدث هذا الزلزال والبركان الذي هز مشاعري وفجرها هكذا فجأة وبدون سابق إنذار. هل هي رفاهية المشاعر والحب الذي يجعلنا لا نشعر بحقيقة الحب والمشاعر الحقيقية، أم أن الحب الحقيقي يحتاج لاختبار من النوع الثقيل.


أفاقت شذي من خواطرها وطلبت أحمد والذي لم يرد عليها فجن جنونها. تحولت إلي قطة تقفز بخطوات سريعة ووالدها يهرول ورائها. وبعد أكثر من نصف ساعة في القفز بين السيارات في الشوارع، وصلت إلي المستشفى. هرولت إلي الغرفة المخصصة له بعد أن سألت في الاستقبال. وجدته مستلقي علي السرير ووجه وبعض اجزاء جسده مغطي بالضمادات.


رغم الآلام المبرحة التي يشعر بها في جسده، إلا أن روحه شفيت من كل ألم عندما رأي شذي تدخل الغرفة عليه بقلق.جرت نحوه كالطفلة، أنت بخير يا أحمد، أنت سليم، وجرت عليه تتحسس جسده لتتأكد أنه بخير .


ملأت السعادة وجه أحمد وكأنه ولد من جديد في هذه اللحظة التي هي الأولي منذ زواجهما التي يشعر فيها بحب شذي الحقيقي ولهفتها عليه وتمسحها فيه كالقطة المحبة لقطها والراغبة فيه.شذي، لا تقلقي علي فأنا بخير والحمد لله، فقط جروح سطحية وإن شاء الله اتعافي منها سريعا. ولكن لو أعلم أن حادثة واحدة تجعلك تهتمي بي وتقلقي عليّ هكذا لكنت مت كل يوم ألف ميته لأشعر بهذا الاهتمام وهذا الحب.


وقف الوالد ينظر إلي ابنته شذي غير مصدق لكلماتها ونظراتها ومشاعرها التي تسيل من عيونها وملامحها. تعجب أين كان كل هذا الحب وكل تلك المشاعر وكل هذه النظرات، وتلك اللهفة. إنه القدر الذي يرتب الأحداث ويقلب المشاعر. ظل واقفا منبهرا باللحظة وسعيدا بها ومتمنيا أن تدوم إلي الأبد.


احتوت شذي رأس أحمد براحتيها الرقيقتين وعيناها تتطلع إلي عينيه اللامعتين بالحب والشوق. أحمد لا تتعجب، لكل لحظة ميلاد ولكل مشاعر زمان ومكان، والمشاعر الحقيقية هي التي تتولد وتنضج وتتفجر دون سابق انذار. انت انسان جميل، كنت أشعر تجاهك بحب الزوجة، أما الآن فأنت زوجي وحبيبي وعشيقي، والرجل الذي كنت أحلم به.


نظر إليها أحمد نظرة حملت معها كل الحنان الذي يموج في قلبه، وكل الحنين الذي يملأه، وكل الطيبة التي تذوب في خلاياه، وأخرج من جيبه هدية عيد ميلادها ليضعها علي عنقها ليتدلى علي صدرها سلسلة بنهايتها قلب ماسة محفور عليها "أحبك للأبد ولو كان حبك لي مُحال".


قرأت شذي الكلمات المحفورة علي الماسة فدمعت عيناها، وهمست في عينيه بقبلة كادت تمزق الشوق في أضلعه "وأنا أحبك للأبد وإلي أقصي مدد فحبك لي الزاد والخيال". ولكن كيف اشتريت هذه الهدية وانت في حالتك هذه .


ابتسم لها بقلب ضاحك، اشتريتها قبل الحادثة بدقائق. هل نسيتي أن عيد ميلادك غدا .


لمعت عينيها بدمعات حبستها، فقد كان حرصه علي هديتها هو السبب في هذه الحادثة. قبلته علي شفته قبلة أراحت كل آلامه .


ذابا في بعضهما، هو يحتضن خصرها بذراعيه، وهي تحتضن قلبه براحتيها، ووالد شذي يزفهما علي دقات قلبه الذي ولد هو الآخر من جديد.


انتهت


تحياتي

د. محمد لبيب سالم


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات د. محمد لبيب سالم أستاذ جامعي واديب

تدوينات ذات صلة