"لو عاد بي الزمان وخُيرت ما بين "كثير من التعليم وقليل من التربية" أو "التربية وقليل من التعليم" لاخترت فورا التربية أولا ولو معها قليل من التعليم"


في السنوات الأولي من المرحلة الابتدائية (من ١٩٦٩ ) كان مدرس الدين يأخذنا إلي الجامع المجاور للمدرسة ليعلمنا الوضوء والصلاة. كان يقوم بالوضوء أمامنا ويطلب منا أن نفعل كما يفعل هو. ثم يصلني بنا إمامًا. ثم يدعوا أحدنا ليكون إمامًا ليعلمنا كيف تكون الإمامة عن واقع. كانت حصة من أجمل الحصص، فيكفي أننا كنا نخرج من المدرسة لنمشي في الشارع كمجموعة وكلنا فخر أننا طلبة في المرحلة الابتدائية.


كان طابور المدرسة محببا جدا إلي نفسي، خاصة فقرة تحية العلم. كان طابور الصباح يمثل الوجبة الأولي لليوم الدراسي تملأنا بالحماس والأمل والتفاؤل والالتزام. كان عبارة عن وجبة اخبارية وفنية وثقافية وعلمية. كان فيها العزف علي القانون، والقاء نشيد الصباح، والقاء نشرة الأخبار، ثم طابور الانصراف. كنّا نقف في الطابور أطفال بريئة وأمامنا المدرسين العظماء، نبدوا أبرياء بزي بسيط جدا ولكن بداخلنا ثورة كامنة للإقبال علي التعلم يخرجه في وقته من يخرجه أثناء الْيَوْمَ الدراسي أو في الأيام التالية. وكان يسبق الْيَوْمَ الدراسي حصة مجانية من ناظر المدرسة الذي كان يعامل كلا منا كأب يحرص عليه كما بحرص علي أبنائه. وكان يتخلل العام الدراسي مسابقات بين مدرستنا ومدارس أخري سواء في حرم مدرستنا أو حرم المدارس الأخرى. وكانت هذه المسابقات تمتل لنا مناسبات رائعة للتعرف علي طلاب آخرين بثقافة ورؤية مختلفة. وبالفعل كنّا نسعد جدا بهم ونتعلم منهم حتي لو فزنا في المسابقة.


ولا أنسي بالطبع الألفي (مسئول الفصل) الذي كان يختار من قبل استاذ الفصل أو بالانتخاب فيما بيننا. وقد علمنا ذلك كيف نمارس المسئولية علي أنفسنا وعلي الآخرين حتي لو كانوا زملائنا أو أصدقائنا دون محاباة أو تفرقة. فقد كان ألفي الفصل يمثل أستاذ الفصل في غيابه. دوره هو رصد ما يحدث في الفصل خاصة التجاوزات وتدوينها مع اعطاءه الصلاحيات الكاملة لإدارة الفصل لضبط تصرفات الطلبة. كم كان ذلك مفيدا في تكوين شخصية ادارية قوية صاحبة رأي وقرار.


ثم انتقلنا إلي المدرسة الإعدادية وكانت مميزة في حصة الألعاب والرسم والموسيقي والزراعة. كانت هذه الحصص من أجمل وأهم الحصص لأنها لم تكن موجودة في المرحلة الابتدائية ما عدا حصة الألعاب. فقد كان زمن حصة الرسم ساعتين كاملتين، كنت استمتع بهما أيما استمتاع. ورغم أن المواضيع كانت تفرض علينا، إلا أني كنت أعيش اللحظة في رسم الموضوع وتلوينه وذلك لحبي الشديد في الرسم كهواية وخاصة المناظر الطبيعية.


وخلقت لي هذه الحصة الفرصة للتعرف علي بعض الأصدقاء الذين كان الرسم لهم كالقراءة والكتابة، حتي أن أحدهم كان يرسم بالماء (باستخدام زجاجة فطرة يملأها بالماء) علي التراب. كان رائعا وموهوبا وكنت مبهورا بطريقته، ولكنه للأسف لم يتخصص في الفن. أما حصة الزراعة فكانت رائعة بمعني الكلمة، فيكفي أننا كنّا نصنع كل انواع المربات. وأحببت جدا صناعة مربة الجزر، والتي لا أجدها الآن في الأسواق. وكانت المدرسة تبيع هذه الصناعة البسيطة وكنا نسعد بذلك جدا. وبعيدا عن انشغالنا واشتراكنا في الرسم أو الصناعة الزراعة في هذه الحصص، إلا أن هذه الحصص كانت فرصة كبيرة للتعارف وتكوين صداقات بأريحية كبيرة بيننا وبين المدرسين.


ثم انتقلنا الي المرحلة الثانوية العسكرية التي جعلتنا نشعر أكثر بالالتزام. كانت أجمل اللحظات اليِّ تلك التي كنت أرتدي فيها الزِّي العسكري، والذي كان أنيقا جداً ومشرفاً. ولا أذكر أني تخليت طوال الثلاث سنوات عن ارتداء الزِّي العسكري، فقد كنت أفتخر به سواء في المدرسة أو خارجها، خاصة أننا كنّا نمشي أكثر من ٨ كيلو متر من قريتنا دهتورة إليّ مدرسة كشك الثانوية العسكرية، والتي كانت تقع علي أطراف مدينة زفتي.


كان طابور الصباح عسكريا في وجود أفراد من القوات العسكرية، الذين كانوا مسئولين عن تدريبنا وعن توزيع التغذية التي كانت تصرف مجانا لكل طالب، والتي كانت علي ما أتذكر مكونة من رغيفين عيش بلدي ومربي وجبنة مثلثات وبرتقالة. وتعلمنا من العسكرية النظام والالتزام والمسئولية التي أصقلت شخصيتي علي وجه الخصوص، خاصة عند التحاقي بالخدمة العسكرية بعد إنهائي المرحلة الجامعية. فقد كان هناك الكثير من الأمور في الجيش الذي تعلمناه أثناء الطابور والحصص العسكرية في المرحلة الثانوية.


وكانت حصة الألعاب في الثانوية أيضا من أحب الحصص خاصة أن المدرس كان يتمتع بجسم رياضي، وعاشق للرياضة ومحب لكل من هو متفوق رياضيا. وأذكر أني فوجئت مرة أن اسمي مُدرج ضمن قائمة فريق كرة القدم المشكل من المدرسة للعب في مباراة مع فريق كرة القدم بنادي طنطا الرياضي، والذي كان قد وفق للعب في الدوري الممتاز آنذاك (عام ١٩٧٩) ولأول مرة في تاريخه. وبالفعل أدينا مباراة مشرفة أمام فريق طنطا. ورغم هزيمتنا إلا أن أدانا كان متميزا، بفضل التمثيل المشرف تحت قيادة مدرس الألعاب. فوجئت بعد المباراة بمدير المدرسة يطلبني أنا وطالب آخر اسمه أحمد سعد والذي كان لاعبا ممتازا ويتميز بلياقة وسرعة وتكتيك ممتاز.


لم أكن أعرف السبب وراء طلب الزيارة إلا في النهاية عندما أخبرني مدير المدرسة أن السبب الرئيسي وراء المباراة أن مدرب فريق كرة القدم بنادي طنطا يبحث عن لاعبين جدد في فريقه بالدوري الممتاز. وقد اختار المدرب أحمد سعد وأنت، فما رأيك. بالطبع، شعرت بالفرحة تقفز من صدري وتمنيت ساعتها تقبيل المدرب والمدير ومدرس الألعاب وأحمد سعد نفسه. أحمد وافق علي الفور، وأنا وافقت أيضا ولكن أخبرته أني لا بد من الحصول علي موافقة والدي. تعجب المدرب من ردي لكونها فرصة لا تحتاج إلي التفكير، وانصرف وأخذ أحمد معه يتحدثا سويا علي طاولة للاجتماع. وانتظر مدير المدرسة الرد النهائي بالنسبة لي. ولكن والدي لم يوافق علي الإطلاق خوفا علي تعليمي، فقد كان يضع كل آماله علي تفوقي ودخولي الجامعة وليس لعب كرة القدم. وهكذا انتهي حلم اللعب في الدوري الممتاز.


وهناك الكثير من الذكريات الأخرى الجميلة سواء في المرحلة الابتدائية أو الإعدادية أو الثانوية التي كان لها الأثر في تكوين شخصيتي العلمية والأدبية والثقافية والاجتماعية حينما كانت اليوم الدراسي في المدرسة فرصة كبيرة للتربية من النظام ومن المدرسين, وكانت الجرعة التي ناخذها من التربية أهم بكثير من جرعة التعليم، رغم أن كم ونوع المعلومات ومصادرها كان قليلا جدا وغير متنوعا كما هو متاح حاليا للأجيال الحالية. ولكن علي النقيض من ذلك، لم تتاح للأجيال الحالية منظومة التربية والاستمتاع بالدروس خارج المنهج العلمي من رسم وزراعة وموسيقي وعسكرية ورياضة وريادة والتي بالطبع تشكل وجدان ولياقة الطالب جنبا إلي جنب مع تشكيل فكره. ناهيك عن الطقوس اليومية مثل طابور الصباح، أو الموسمية مثل المسابقات العلمية والأدبية.


لو عاد بي الزمان وخُيرت ما بين "كثير من التعليم وقليل من التربية" أو "التربية وقليل من التعليم" لاخترت فورا التربية أولا ولو معها قليل من التعليم فالتربية ثم التربية هي الأساس وهي الحياة. أما العلوم فقد أصبحت متاحة للجميع مجانا صوتا وصورة وكتابة ولا تحتاج إلا للبحث عنها بضغطة علي الفون أو الكمبيوتر. فلم يعد الطالب يحتاج في عصرنا هذا سوي تربية قويمة تؤهله لاستخدام أفضل للمعلومة. وبالطبع هذا مايحدث في معظم بلاد العالم. فكلما تطورت التكنولوجية كلما احتاجت إلي عقلية مرتبة ومنظمة ووجدان هاديء ومتزن.


ليتنا نفكر بقوة في العودة إلي التربية ونكتفي بتدريس أساسيات العلوم ليتسع الوقت للتربية. وان كان ولا بد من كم المعلومات فليكن مزيدا من العلوم واجب منزلي ليبقي الواجب المدرسي الأساسي هو التربية.


والله ولي التوفيق.

د. محمد لبيب سالم


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات د. محمد لبيب سالم أستاذ جامعي واديب

تدوينات ذات صلة