"وكما يخون الناس وينقلبون على الذات، أيضا قد تخون الخلايا وتنقلب على الذات، وهكذا أحيانا قد تجري الخيانة في دمائنا"
الكل ينظر إلي الجهاز المناعي علي أنه جهاز سوبر قوي علي طول الخط، ولكن الجهاز المناعي رغم قوته وقدرته الفائقة والسريعة والمتعددة الذخيرة والطلقات، هو أيضا جهاز مرن وحساس جداً. فتحت ظروف مرضية معينة، مثل السرطان والامراض المعدية المزمنة وكذلك الالتهابات المزمنة التي تستمر فترة طويلة في الجسم بدون علاج، يقل جداً نشاط وعدد ووظائف الخلايا المناعية الأمر الذي حتما يؤدي إلي عدوي بالميكروبات من فيروسات وبكتيريا وفطريات.
وفي نفس الوقت وتحت ظروف أخري، غير مفهومة كلية أسبابها حتي الآن، ما عدا بعض مثيرات الحساسية، تصبح الخلايا المناعية شديدة الشراسة وتنشط جدا لدرجة أن تؤذي الخلايا السليمة نفسها مما يؤدي إلي التهابات مزمنة قد تؤدي في النهاية إلي تطور الأمر إلي حدوث أمراض المناعة الذاتية نتيجة لمهاجمة انسجة الجسم المسالمة.
والأمثلة كثيرة لهذه الأمراض المناعية ومنها التهاب المفاصل والذئبة الحمراء، والصدفية، الثعلبة، والسكر، والتصلب المتعدد الذي يصاحبه تلف للأعصاب، والتهاب الغدة الدرقية، وغيرها من الأمراض المناعية التي ليس لها علاج شافي حتي الآن سوي الكورتيزون وبعض العلاجات البيولوجية المثبطة للالتهاب واحيانا العلاج بالخلايا الجذعية. وبذلك نري أن الخلايا المناعية بطبعها خلقت قوية تستطيع التعامل مع العدو أيا كان بسرعة ونشاط وقوة. ولكنها قد تمرض وتضعف أو تنشط نشاطا مفرطا يؤدي أيضا إلي مرض جسيم.
هذا معروف منذ سنوات طوال. أما العجيب أن تنقلب بعض من الخلايا المناعية تحت ظروف مرضية علي باقي الخلايا المناعية فتوقف نشاطها ووظائفها تماما مما يصيب الجهاز المناعي بشلل تام بسبب خيانة بعض خلاياه وانقلابها عليه. وقد اهتممت شخصيا اهتمام كبير بنوع من هذه الخلايا والتي تتبعناها في المرضي المصابين بأنواع مختلفة من السرطان الدم وغيره من السرطانات الأخرى خاصة الثدي والرئتين والقولون والكبد وكذلك في العدوي بفيروسات الكبدية وفيروس كورونا.
وهناك نوعان مشهوران جدا من هذه الخلايا المناعية التي تنقلب علي أخواتها فتوقف نشاطها.
النوع الأول: يوجد في الظروف العادية، ولكن بنسب قليلة جدا كافية لوقف نشاط الخلايا المناعية بعد انهاء مهمتها حتي لا تنهك الجسد وتدمره رأساً علي عقب. ولذلك فهذا النوع من الخلايا الموجود بطبعه لا يظهر نشاطه ولا يزيد في عدده الا بعد انتهاء مهمة الخلايا المناعية، أي أن دوره منظم فقط لصالح الجسم. أما في وجود سرطان أو عدوي مزمنة فإن هذه الخلايا تزداد في العدد والنشاط زيادة مفرطة وذكاء شديد عندما تبدأ الخلايا المناعية في التعامل مع العدو (الجسم الغريب)، ويؤدي ذلك إلي توقف تام لنشاط الخلايا المناعية عن قيامها بعملها ضد العدو، وهنا تكمن خطورة وجود هذه الخلايا عند ظهورها علي الساحة في البداية.
النوع الثاني: من هذه الخلايا فهي مختلفة عن النوع الأول. فعلي عكس النوع الأول المفروض وجوه في محددة وهي عند انتهاء مهام الخلايا المناعية من عملها، فإن هذا النوع من الخلايا يظهر فجأة نتيجة توقف نمو وتميز نوع محدد من الخلايا البلعمية وهي في نخاع العظم (مصنع تكوين الخلايا). فبدلا من أن تنضج صغار الخلايا البلعمية إلي خلايا قادرة علي التهام الاجسام الغريبة، فإنها تصبح حالة فريدة من نوعها، لا هي خلايا بيبي ولا هي خلايا ناضجة تماما، أي اصبحت خلايا شاذة وتفرز مواد سيئة قادرة علي وقف حركة ونشاط ووظائف الخلايا المناعية فتمنعها من القيام بمهمتها.
وكما يحدث مع الخلايا المناعية المثبطة الأخرى التي ذكرناها أعلاه ، فإن هذه الخلايا تظهر ايضا في بداية رد الفعل المناعي تجاه الورم او العدوي مما يتسبب في مشكلة عويصة، جهاز قوي بطبعه موجود ولكنه مشلول. وبالطبع أسوأ الظروف علي الاطلاق أن تزداد اعدا الخلايا من التوعين في وقت واحد وفي نفس المريض لأن ذلك سوف يِؤدي بالطبع الي تأثيرات اكبر بكثير عن تأثير كل خلية بمفردها.
وقد قام فريقي البحثي بدراسة النوع الأخير في العديد من الحالات المرضية التي اشرنا اليها اعلاه سواء في السرطان او العدوي الفيروسية. ورصدنا بالفعل اعداد هائلة من هذه الخلايا في دم المرضي مقارنة بالأصحاء. وحددنا المواد التي تفرزها هذه الخلايا والتي تقوم بتثبيط الخلايا المناعية من ناحية ومن زيادة نمو وانتشار الورم من ناحية اخري. وقد نشرنا في ذلك أكثر من ١٠ ابحاث في دوريات علمية متميزة وذلك من خلال مشروعات ممولة من داخل وخارج مصر.
https://youtu.be/OnJFm_D60rM
https://www.youtube.com/watch?v=YBE4tq8UllQ
وجهود العلماء ونحن منهم تنصب حاليا علي:
- استخدام هذه الخلايا كدلالة لحالة المرض والمريض
- التخلص منها بأدوية ثبتت فعالية في هذا الاتجاه
- تحويلها الي خلايا نافعة للخلايا المناعية، اي برمجتها لإعادتها الي طبيعتها الطيبة.
وانا شخصيا مهتم بالثلاث استراتيجيات.
ولا بد من التنويه على أن سوء التغذية وعدم الاعتماد على اغذية صحية، وعدم النوم الكافي، وعدم ممارسة الرياضة، والتوتر الشديد المزمن، والضغوط النفسية الشديدة المزمنة بالطبع تساعد علي ظهور هذه الخلايا وبأعداد كبيرة حتي في عدم وجود مرض مزمن..
وفهم دور هذه الخلايا في تثبيط الخلايا المناعية ورد فعلها ضد الورم والعدوي مهم للغاية لتصميم علاجات للحد من تأثيرها، ولرفع قدرة العلاج المناعي سواء ضد الاورام او الفيروسات وذلك بالتخلص من هذه خفافيش، وكذلك في تقييم الحالة المرضية وعدم استجابتها للعلاج الكيماوي او المناعي الجديد الذي بدا يطبق على نطاق واسع في العديد من المرضي ولكن يعوقه احيانا وجود هذه الخلايا المثبطة التي تعمل كقاطع طريق علي اصدقائها وبكل بجاحه.
هذا هو الجهاز المناعي القابع في أنسجتك ويدور فيك ليل نهار بلا كلل ولا ملل حتي وانت نائم. جهاز راقي جدا وذكي جدا ويدرك عمله جيدا، ولكن لا بد وأن نساعده، وإلا خسرناه.
مع خالص تحياتي
ا.د. محمد لبيب سالم
أستاذ علم المناعة
كلية العلوم جامعة طنطا - مصر
وكاتب وروائي وعضو اتحاد كتاب مصر
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات