"الشك في عدم جدوي ما نقدمه من خير ليس له موقع من الاعراب طالما أننا نؤمن بالله الذي يعلم ما لا نعلمه من أحداث الزمان والمكان
كنت اتحدث فجر الأمس مع أستاذ عزيز علي قلبي عندما اتصل بي ليطمئن علىّ كعادته من وقت لآخر، سألني لماذا أشعر بنبرة أنين ولوم في صوتك رغم كل ما تقوم به من أنشطة في البحث العلمي وخدمة المجتمع والتدريس. كان ردي أنى أشعر بأن ما أقوم به ليس له مردود كبير كما أتوقع وأني اخشي أن أكون مثل الذي يحرث في الماء.
رد أستاذي على الفور بحكمته البالغة بأن اعطاني مثالا رائعا حدث له شخصيا مع الشيخ عبد الحليم محمود (1910-1978) رحمة الله عليه، وهو عالم أزهري ووزير مصري سابق وشيخ الأزهر في الفترة بين عامي (1973-1978)، حين فوجئ أستاذي بسيدنا الإمام يخطب بنفسه في زاوية في أحد الشوارع الجانبية بـالقاهرة.
كان أستاذي يصلي الجمعة في هذه الزاوية ثم فوجئ بالشيخ عبد الحليم محمود بكل علمه الغزير وتواضعه الجم وسماحة وجهه البشوش يخطب الجمعة أمام عدد لا يزيد عن 50 مصلي. وبعد انتهاء الخطبة سأل أستاذي الشيخ ما الذي دفعك يا شيخنا للخطبة هنا وليس في مسجد كبير. رد الشيخ بابتسامته الهادئة أن لهؤلاء الناس كبيرهم وصغيرهم حق علينا ومن يدري فلعل أحدهم يسمع منا وينصت وينتفع ويصبح لغيرة قدوة.
ذكر لي أستاذي هذا الموقف ليؤكد لي أن زيارة وخطبة الشيخ كان لها بالفعل أثر ايجابي كبير علي أستاذي شخصيا وعلي نفوس الكثيرين الذين حضروا الخطبة، وهو ما شعره أستاذي منهم فيما بعد. ثم ختم أستاذي القصة بنصيحته "لا تستكثر الخير ولا تقلل منه، وخير الخير ما تقدمه للناس من علم ينتفع به حتى ولو ظننته قليل وأن أحدا لن ينتفع منه. فأنت لا تدري فقد يكون ما تقدمه يؤثر بالإيجاب ولو على فرد واحد في المجتمع، الله وحده يعلم وهو وحده قادر. وقد يكون هذا الفرد في مكان آخر وفي زمان آخر. عليك فقط ألا تتوقف ولا تقلل من مجهودك وأن تتوكل علي الله وتستمر."
ومع أني بالفعل أحاول دائما الاستمرار فيما أقوم به كأستاذ جامعي يقوم بالثلاث مهام من تدريس وبحث علمي وخدمة مجتمع، رغم المنغصات والإخفاقات والتحديات، إلا أن حديث أستاذي وضربه المثل من الواقع ومع شخصية في مكانة العلامة الشيخ د. عبد الحليم محمود رحمة الله عليه كان له أثر كبير على النفس لترتاح وتستقر وتهدأ وتستمر بلا لوم أو عتاب أو شكوى.
ورغم أني استقبل على الخاص من وقت لأخر رسائل إيجابية من شباب أعضاء هيئة التدريس وباحثين ومن طلاب في جميع المراحل تعبر عن شكر أو امتنان أو تقدير بسبب التأثير الإيجابي علي ما أقدمه من محاضرة أو ندوة أو ورشة عمل أو إجابة علي سؤال محيرا أو تبني فكرة لأحدهم أو مجرد الاستماع والتشجيع، إلا أنني قد شعرت بسعادة غامره اليوم عندما وصلتني عدة رسائل علي الخاص من زملاء وطلاب دراسات عليَا وطلاب ما قبل الجامعة، تعبر عن تقديرهم بما قدمته ومدي استفادتهم منه خاصة أن بعضهم في بلاد بل وقارات أخري. وكان السبب وراء سعادتي هو تزامن ما وصلني مع ما قاله لي أستاذي من قصة الامام الدكتور عبد الحليم محمود (مع الفارق في التشبيه) بما لها من دلالة معنوية ومادية ومع نصيحته لي بأن استمر ورزقي ونفع الناس علي الله.
سعدت جدا بالرسائل الإيجابية لأننا بشر ونحتاج إلي التشجيع من وقت لآخر حتى نستمر في العطاء ونتحمل الصعوبات والتحديات من أجل تحقيق رسالة في الحياة نؤمن بها ،حتى ولو كان يحاول البعض تشويه الرسالة أو تمزيقها.
كل الشكر لأستاذي على الدعم المعنوي وعلى الحكمة وعلى الدعاء وعلى الايمان بما نقوم به ولو كان بمثابة ما يعلق بإبرة المخيط من مياه البحر.
أعلم أن هناك الكثيرون منا ينتابهم الشك في مدي الاستفادة مما يقومون به من محاولات للتغير إلى الأفضل في مختلف فروع العلوم والآداب والفنون، ولكن الشك ليس له موقع من الاعراب طالما نؤمن بالله فهو الذي يعلم ما لا نعلمه من أحداث الزمان والمكان. وأعلم أن هناك الكثيرون منا من يستطيعوا أن يقدموا من علم وحكمة وخبرة وخلاصة تجارب في الحياة ولكنهم لا يفعلون لسبب أو لآخر. ودعوتي لهؤلاء أن يقدموا ما لديهم من علم غزير وفنون وآداب مفيدة قبل فوات الأوان لتضيف للأجيال الحالية والقادمة حتى ولو كان قليل من كثير. أما الاكتفاء وعن عمد بالقليل وبالحد الأدنى فأنا اعتبره ذنب كبير.
مع خالص تحياتي
ا.د. محمد لبيب سالم
أستاذ علم المناعة - كلية العلوم - جامعة طنطا - مصر
وكاتب وروائي وعضو اتحاد كتاب مصر
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات