"نعم, الثبات الانفعالي يورث ولكنه يُشكل بالتعليم والتدريب وبيئة المنفعل التي يعمل بها"



الثبات الانفعالي والجهاز المناعي  خاطرة بقلم  أ.د. محمد لبيب سالم26763339229052984


فجأة وأنت ساكن وهادئ وتندن أغنية تعشقها، تجد نفسك وقد تملكك الانفعال واستيقظت بداخلك كل مشاعر الغضب وتجمعت وتهيأت أن تستخدم كل الأسلحة الجسدية والفكرية والنفسية في التعبير عن حالة الغضب هذه. وعلي حسب الإنسان في تعليمه وطبيعته وتمرينه لذاته ودرجته الوظيفية والدينية والعائلية والتربوية والثقافية والأدبية والاجتماعية تقرر النفس بطريقة برجماتية في التعبير عن حالة الغضب هذه.

وهذه هي الدرجة الأولي من وجهة نظري من اختبار الثبات الانفعالي. وفي غالب الأحيان تستخدم النفس لغة الجسد وأبجديات اللسان في التعبير عن الغضب بدرجاتها المتفاوتة. وهناك من امتلك درجة أعلي في الثبات الانفعالي فنجده يستخدم فقط لغة الجسد وغالبا ما يحصرها في تعبيرات الوجه وملامحه بعيدا عن لغة اليد والقدم. وهناك من يستخدم لغة اللسان فقط ويحصرها في الكلمات القاسية ولكن بنبرات قوية وحازمة وصارمة والبعد عن الأبجديات النارية المتأدبة. وهكذا نحن بين هذا وذاك وكل على ما تربي وتدرب وشب عليه. وكلما كان الثبات الانفعالي عاليا كلما كانت النتائج هائلة.

ولأن الثبات الانفعالي موروث ولكنه يُشكل بالتعليم والتدريب وبيئة المنفعل التي يعمل بها، فحالة الانفعال الانعكاسي تحمل توقيع الشخصية في بيئتها. ومن واقع تدريب شخصي غير مبني على تخصصية وجدت أنه من الممكن من تحسين الثبات الانفعالي ليس بتجاهل الموقف وأسبابه ولكن بالتفاعل معه وكأنه كان شيئا متوقعا. وبعد عناء وتدريب ذاتي متكرر ومتعمد وجدت أن نسبة النجاح في مقدار تمكين الثبات الانفعالي كبيرة جداً ومؤثرة في إحداث ليس فقط السلام النفسي وتطوير العمل ولكن أيضا في إبقاء شعرة معاوية مع أناس لا تريد التعامل معهم ولا تريد أن تفقدهم. وهكذا من الممكن أن يكون التدريب بنية التطبيق له أثر مهم في تطوير النفس.

ولأني دارس للبيولوجيا وخاصة علم المناعة، وجدت في الخلايا المناعية المرجع في تعلم الثبات الانفعالي من ضمن الظواهر البيولوجية التي أوجدها الله فينا. فالخلايا المناعية ومع أنها خلقت لتدافع وتهاجم وتقتل في أسرع وقت ممكن، إلا أني اكتشفت أن لديها قدرة غير عادية ومتفاوتة على الثبات الانفعالي. وأعلي درجة لها في الثبات الانفعالي هو تجاه خلايا الجسم نفسه التي مع انها لا تنتمي للجهاز المناعي.

فمهما زاد توتر وغضب وانفعال خلايا الجسد القابعة هنا وهناك لا ترد الخلايا المناعية بل تتركها وشأنها بعد أن تتحسسها. وبهذا تضرب الخلايا المناعية المثل الرائع في الثبات الانفعالي فلا تؤذي الجسد لا من قريب أو من بعيد. ولكنها تعلمنا أيضا أن الثبات الانفعالي قد يتحول إلى رد فعل عنيف إذا ما تكرر من نفس الخلية وإذا ما وجدت الخلايا المناعية أنه يجب عليها أن ترد حتى ولو كان الرد يؤذي الصديق طالما أصر على أن يكون أهوج.

وهناك أنواع ودرجات أخري من الثبات الانفعالي تتمتع به الخلايا المناعية وهي تدافع وتهاجم حتى وهي تقتل العدو وسط وتميزه من وسط الأصدقاء. وسوف أسرد مقالا خاصا عن هذا النوع من الثبات الانفعالي لدي الخلايا المناعية.

وأيا كانت درجة ونوع الثبات الانفعالي لدي الخلايا المناعية فمع أنه موروث لديها إلا أنها تتدرب عليه طويلا في معسكرات تدريب محددة الأماكن قبل أن تخرج للبيئة الخارجية في باقي الجسد لتتعامل معه بحنكة وذكاء مبرمج علي أعلي مستوي من المهنية والحرفية. والعجيب أن الخلايا المناعية التي تفشل في امتحانات التدريب هذه لا تخرج من معسكرات التدريب إلا وهي جثة هامدة لا يعرف عنها أحد شيئا.


وكما يفعل الجهاز المناعي في جنوده من الخلايا المناعية وتدريبها على الثبات الانفعالي، كذلك يطبق الجيش هذا التدريب على الجنود في معسكرات التدريب قبل خروجها للتعامل في وحداتها العسكرية المتخصصة. فلا يخرج الجندي من معسكر التدريب إلا بعد التمرن واكتساب قدرة عالية علي الثبات الانفعالي مع زملائه وقيادته.

وأتذكر جيداً عندما التحقت بالقوات المسلحة كعسكري (جندي مجند) في يناير ١٩٨٥، بعد أن أنهيت البكالريوس وعملت بالجامعة معيداً لمدة ثلاث شهور، قضينا أنا وزملائي المجندين من مختلف أنحاء مصر الثلاث شهور الأولي من فترة الجيش كاملة في مركز التدريب لسلاح المدفعية. وأثناء هذه الفترة تم تدريبنا بأسلوب مهني عالي وممنهج علي طاعة الأمر العسكرية والثبات الانفعالي الذي بالطبع مطلوب لتحقيق تنفيذ الأوامر سواء كنا نحبها أو تكرهها، وسواء كنا مقتنعين بها أم لا. وبالفعل كنا قد تغيرنا جميعا بانتهاء الثلاث شهور رغم تباين شخصياتنا وتعليمنا وتخصصاصتنا ومستوانا الاجتماعى. وكنا نتعجب كيف لنا أن تتطور شخصياتنا بهذه السرعة وهذه المهنية من متمردين الي النظام في البداية إلي منفذين للنظام في النهاية وبدون انفعال طاهر. وكان كل ذلك بفضل التدريب.


وفي نفس السياق، أذكر موقف مهم حدث لي وزملائي الجنود عندما انتقلنا من مركز تدريب المدفعية إلي الوحدة الأساسية والتي سوف نقضي فيها بقية فترة الجيش، حوالي ١٠ -١٢ شهر. أتذكر بعد أن وصلنا الوحدة إلي بيوم جاءتنا الأوامر بحفر خندق بعمق ٥ متر وابعاد ٥ في ٥ متر. وبالفعل نفذنا الأمر كما ينبغي وأعطينا التمام للقائد، ولكننا فوجئنا في اليوم الثاني بأوامر أخري بأن نقوم بردم الخندق. تعجبنا من هذا الأمر، ولكننا لم نملك إلا أن نقوم بردم الخندق، وأعطينا التمام مع محاولة الحفاظ علي الانفعال حتي لا نتعرض للمسائلة. ثم فوجئنا في اليوم الثالث بأوامر جديدة لنفس المجموعة لنقوم بحفر الخندق مرة أخري. وهنا ازداد تعجبنا، ولكن ازداد في نفس الوقت ثباتنا الانفعالي حتي لا يظهر علينا ونتعرض للمسائلة. وبالفعل حفرنا الخندق وأعطينا التمام للقائد. وبعد ثلاثة أيم أخري جاءتنا الأوامر لسرعة ردم الخندق وتسويته وكأنه لم يكن. وازداد غضبنا الداخلي وكتمناه بداخلنا، ولكن ازدادت قدرتنا علي الثبات الانفعالي عن المرة السابقة ونفذنا الأوامر واعطينا التمام للقائد.


وفي لقاء مفتوح مع القائد، كان قد تعود عقده كل شهر ويسمح فيه للجنود بعرض بعض التساؤلات وهو الأمر الذي كان غير مألوفًا في القوات المسلحة في حد علمي آنذاك، سأل أحد الجنود الزملاء، وكان قد عُين وكيلا للنائب العام قبل التحاقه بالجيش وهو مازال صديق عزيز حتي الآن، لماذا قمنا بحفر وردم الخندق ثلاث مرات يا فندم. أشار القائد لأحد صف الضباط ليجيب علي هذا التساؤل. قام الشاويش بتقديم التحية للقائد ثم أوضح لنا بأن وراء ذلك تعلم طاعة الأوامر أيا كانت، فليس هناك رفاهية لمناقشة الأوامر في الجيش وخاصة أثناء الحروب. وفي نفس الوقت لنتعلم سياسة الثبات الانفعالي عندما يتسلل الغضب إلي النفس.


وتمر الأيام، لنجد أنفسنا مكلفين بالاشتراك في مناورة حية قمنا فيها بتطبيق عملي لسياسة حفر وردم الخندق ثلاث مرات أثناء المناورة، ليس لنتعلم الثبات الانفعالي بل لأنها كانت جزء من المناورة لتغيير مواقع الهجوم والدفاع أمام العدو بتكنيك يخفي آثار التمويه. وهنا تأكد لنا أن التدريب علي تنفيذ الأوامر وضبط الثبات الانفعالي ليس رفاهية بل لنطبقه أثناء المعارك تماما كما تفعل الخلايا المناعية اثناء وبعد تدريبها قبل القيام بمهام قتالية ضد فيروس أو بكتيريا.


وهكذا ندرك أن التدريب على الثبات الانفعالي ليس اختياريا ولا يندرج تحت بند الرفاهية ولكنه كما تعلمنا البيولوجيا التي تحركنا أنه وجوبي على كل منا ليس بعد أن نشب ونكبر ولكن في الصغر في الحضانة والابتدائي حنجري يتعلم الصغار كيف ومتي يرد في حالة الغضب والاستنفار التي قد تنتابه لأي سبب كان من الأسباب.

وكلنا نحتاج إلى التدرب على الثبات الانفعالي حتى نستطيع أن نعيش بسلام وننهض بالأوطان.

تحياتي

ا.د. محمد لبيب سالم




ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات د. محمد لبيب سالم أستاذ جامعي واديب

تدوينات ذات صلة