"من يقبل الآخر فقد قبل أن يكون انسانا وحمل قانون الإنسانية علي كتفيه ووسام السماحة علي صدره"
نحن نتكلم ونأكل ونشرب ونحب ونكره ونضحك ونغضب ونغني ونفرح ونحزن بالجينات. ومع الجينات بعض من المشاعر التي اعتقد أنها أيضا مكوده في الجينات. وفوق المشاعر هناك طبقة أعلي من الإنسانية وهي التي تجعلنا دائما نسموا فوق الاختلافات والخلافات بيننا وبين الآخر بسبب اللون، أو الدين، أو الجنس، أو اللغة، أو الموطن، أو الحالة المادية، أو الاجتماعية، أو التعليمية. والأخر هنا قد يكون أخ، أو أخت، أو قريب، أو غريب، أو صديق.
فإذا كانت معظم سماتنا الشخصية، إن لم يكن كلها، تعتمد على نوع صندوق جيناتنا الذي ليس لدينا داخل فيه، فقد أدركت وأيقنت أنه من ضياع الوقت والجهد والعلاقات أن نتوقع من الآخر كل ما يتفق مع سماتنا أو أن نغيره كما نريده أن يكون ليتوافق معنا. بل اكتشفت أن حرص الإنسان على تغيير الآخر هو خطأ فادح في حق من يريد أن يغيره. بل قد يصل إلى درجة من الأنانية. وقد اكتشفت أيضا بالخبرة والتجربة والواقع أن كل المحاولات لتغيير الآخر تبوء بالفشل أو قد تنجح، ولكن بنسبة ضئيلة بعد ضياع الكثير من الوقت وراحة البال ومتعتنا بالحياة.
ولذلك توصلت إلى الخلاصة التي مفادها أن فلسفة تغيير الآخر فلسفة خاطئة تماما وأن الأصح هو التركيز على محاولة تغيير الذات من أجل الآخر إذا استطعنا دون اهدار الوقت والمجهود والعلاقات. ولذلك علينا أن نحرص على أن نكون مع من يشبهنا لترتاح وأن نكون مجرد عابري سبيل مع من لا يشبهنا. وإن لم نفعل ستشعر بخيبة الأمل عند كل محاولة نفشل فيها في تغيير الآخر خاصة اذا كان الباحث عن التغيير اشخص “Perfectionist" وهو الذين يتميز بالسمات الشخصية التي تسعي إلي أن يكون كل شيء معهم وحولهم متقنا "Perfect" ،وهو الأمر الذي يصبح أكثر صعوبة مع الأفراد أو المجتمعات التي لا تمارس ثقافة الإتقان"Perfectionism" .
إذا الحل البديل لفلسفة تغيير الآخر هو تطبيق سياسة تقبل ( Toleranceتحمل) الآخر والتغاضي. وقد رأيت الكثير من يفعلون ذلك. ولكن عن طيب خاطر بدون دراية أي بالسليقة. ولكنه لا يدري أن جيناته هي التي تتصرف بسلوك فطري وليس نتيجة سلوك مكتسب عن تعليم، وتدريب، وتوجيه، وقناعة. وبالطبع الفارق بين السلوك الفطري والمكتسب شاسع لأن الفطري يعتمد على الشخص ذاته أي عشوائي وفرصة تأثيره في المجتمع ضئيلة، أما المكتسب فهو منهجي أي ممكن تعميمه على أفراد المجتمع من خلال التعليم، والتدريب، والاعلام، والفن. وبالتالي من الممكن أن يتحول إلى ثقافة مجتمع فتصبح فرصة نجاحه وتأثيره في احداث توازن سلوكي في المجتمع كبيرة. بمعني أدق أن فلسفة تحمل الآخر المكتسبة من جراء الخبرات والتعليم والتدريب والتوجيه هي الأفضل لأنها تحول الفطرة إلى قناعة لدي شريحة كبيرة ومؤثرة من المجتمع.
وصفة تقبل (Tolerance تحمل) الآخر هذه موروثة في الجهاز المناعي في الكائنات الحية سواء النبات أو الحيوان أو الإنسان مما يؤكد علي أهمية هذه الفلسفة في نجاح العلاقات الإنسانية . وحتي صفة "تقبل الآخر" في الخلايا المناعية هي فلسفة أيضا لأنها مكتسبة في الخلايا المناعية المنوط بها معرفة العدو من الصديق . فالخلايا المناعية المتخصصة تولد مبرمجة في جيناتها علي اكتساب فلسفة تقبل الآخر ولكنها لابد أن تتعلمها وتتدرب عليها في نخاع العظم والغدة التوتية. وبالفعل لا تخرج الخلايا المناعية المتخصصة هذه الأماكن إلا إذا تعلمت هذه الفلسفة وتدربت عليها ومن يفشل من الخلايا المناعية في التعلم يموت فورا قبل أن يخرج من نخاع العظم (في حالة الخلايا المناعية البائية) أو من الغدة التوتية (في حالة الخلايا المناعية التائية).
وفور خروج هذه الخلايا المناعية إلى الأماكن الأخرى في الجسم تقوم علي الفور بتطبيق سياسة تقبل أو تحمل الآخر طالما هذا الآخر في حدود الذات والوطن وهو الجسم الذي تدور فيه هذه الخلايا كونها المسئولة عن الدفاع عنه ضد أي غزو خارجي. ولكن بالطبع لا تطبق هذه الخلايا سياسة تقبل أو تحمل الآخر ضد الغزاة الأعداء، حتى لو كان هذا الغازي خلايا بشرية من إنسان آخر فهي تتعامل معها كعدو غريب طالما لم يولد في نفس الجسم الذي ولدت فيه الخلايا المناعية. ولذلك فالآخر عند الخلايا المناعية في جسم كل منا هو أي خلية أخري ولدت في الجسم وتعيش فيه . فإذا فشلت الخلايا المناعية لأي سبب من الأسباب في تطبيق سياسة وفلسفة تقبل الآخر (Loss of Tolerance or Breaking Tolerance) يؤدي ذلك وبدون شك إلي إصابة الجسم بأمراض المناعة الذاتية مثل الروماتيود والتهاب القولون التقرحي والالتهاب الكبدي والذئبة الحمراء وداء السكري من النوع الأول وغيرها من العديد من أمراض المناعة الذاتية.
ومع ذلك فقد يحدث أن تطبق الخلايا المناعية فلسفة تقبل (Tolerance تحمل) الآخر مع الأعضاء أو الأنسجة أو الخلايا البشرية من أشخاص أخرين وذلك من أجل المصلحة العليا للجسم. ولكن الأمر في هذه الحالة بالطبع ليس باليسير بل يحتاج إلي بروتوكول علاجي شديد ومركز يشمل علاج فوري وعلاج طويل الأمد حتي يجعل الخلايا المناعية أن تتقبل هذا الآخر عمدا ولو كراهية بعد أن تتعود عليه تحت تأثير هذا البروتوكول العلاجي الذي لولاه لكانت الخلايا الغريبة من أشد الأعداء وتمت مهاجمتها علي الفور للتخلص منه ولو بعد حين . ولذلك فإذا فشل هذا العلاج فشلت سياسة تقبل الآخر لدي الخلايا المناعية وأصبح الكبد أو الكلية المزروعة أو خلايا مناعية من المتبرع إلى المريض عدوا وبالتالي يؤدي ذلك إلى فشل زرع الأعضاء.
وقد أشبه العلاقة بين العلاقة بين الخلايا المناعية المنقولة والجسم المنقولة إليه بالهجرة خارج الوطن وهي الحالة التي يصبح فيها المهاجر بمثابة الغريب (جسم غريب) لأهل الوطن الجديد بما فيها الخلايا المناعية (مما يوجب تطبيق سياسة تقبل وتحمل الآخر من قبل أهل البلاد تجاه المهاجر. وبالطبع يتطلب ذلك وضع قوانين من قبل الحكومات التي تلزم المهاجر وأهل الديار المهاجر اليها بتقبل الآخر تماما كما يفعل الأطباء مع الخلايا المناعية عندما يتم تثبيط تنمرها تجاه الخلايا البشرية المنقولة من شخص لأخر. وبالطبع لو أدركنا هذا الدرس وهذه الطبائع البشرية والبيولوجية منذ الصغر لراقت لنا الحياة وهدأت العلاقات الإنسانية إلى حد كبير فقط بسبب تطبيق فلسفة تحمل الآخر لنريح ونرتاح.
وعلينا ألا ننسي أن السبب الرئيسي لنجاح وتقدم أمريكا هي سياسة تقبل الآخر تجاه المهاجرين داخل الذين أتوا من كل البلاد ليعملوا في كل الأعمال بقانون البلاد الذي يراعي الموازنة بين المهاجر والمواطن. وعلينا ألا ننسي أيضا أن أحد اسرار تقدم دول الخليج وخاصة السعودية والامارات والكويت وقطر هو تقبلهم للآخر للعمل في بلادهم وإن كان بنسب مختلفة. وعلينا ألا ننسي أيضا أن من أسرار نجاح وتقدم الدولة الإسلامية في مهدها سواء في عهد الرسول أو عهد الخلافة الرشيدة أو الدولة الأموية والدولة العباسية كان بسبب الاعتماد على فلسفة تقبل الآخر من الأعاجم (المواطنين من غير العرب) حيث كان نسبة العلماء من الأعاجم حوالي 85% من اجمالي علماء الشريعة والعلوم الطبيعية والطيبة، حتى أن منهم من أسلم متأخرا أو بقي على ديانته.
وكلما قرأت الحاضر أو التاريخ، بعيدا عن حياة الرسل والأنبياء، كلما اقتنعت تمام الاقتناع أنه لا بد من أن يكون بيننا الصديق أبو بكر والفاروق عمر والإمام على وذو النورين عثمان والفدائي طلحة والزبير والقائد خالد بن الوليد وعمر بن العاص كل له شخصيته وصفاته التي خُلق بها لسبب أراده الله من أجل أن تتحقق رسالة الحياة في كل عصر. فكان ولا بد وأن يقبل الصديق أبو بكر السمات الشخصية للفاروق عمر، وأن يقبل الفاروق عمر السمات الشخصية للصديق أبو بكر، وهكذا الحال في تحقيق سياسة تقبل الآخر بين الجميع في كل عصر ومكان. ويبقي قانون الحق هو الميزان الذي يضبط العلاقات الإنسانية وهو المسطرة التي تساوي بين الاختلافات الجسدية والنفسية والمادية والاجتماعية والسمات الشخصية طالما أن النيات هدفها واحد وهو الصالح العام متجردا من حب الذات والصالح الخاص. تلك هي فلسفتي التي تعلمتها علي كبر والتي كم كنت أتمني أن أتعلمها علي صغر لأُريح وأرتاح.
ولذلك فأنا من دعاة أن يكون التعليم في المرحلة الأساسية والثانوية أساسه تعليم التربية الاجتماعية والنفسية والصحية والعلمية والرياضية ليس لتغيير الشخصيات، ولكن لتبيان أهمية الاختلافات حتى في وجود الخلافات. يجب أن نعلم أطفالنا وشبابنا أن الأصل هو الاختلاف وأن الخلافات سببها الاختلافات وأن اختلاف السمات الشخصية هي مطلب وضرورة من خلق الله للإنسان كما قال الله في محكم آياته " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13( الحجرات. فكيف يتعرف الناس ويتآلفوا إلا اذا طبقوا فيما بينهم فلسفة تقبل الآخر.
وعلينا ألا ننسي قوانين البيولوجيا. فالجينات ومعها المشاعر الإنسانية هي التي تشكل السمات الشخصية لكل منا لتصبح له بصمته النفسية والفكرية والعصبية والإبداعية والفنية والرياضية والتي قد تتدرج من مقياس واحد الي عشرة. وبالطبع سوف يمتلك كلا منا نقاطا عالية وأخري منخفضة هنا وهناك ليكون التباين من أجل التكامل. فما نراه في الأفراد من صفات الهدوء، أو العصبية، أو المرح، أو الاكتئاب بغض النظر عن السن والجنس والحالة الاجتماعية والوظيفية ما هو إلا جينات موروثة. فمعظم الناس تتصرف بفطرتهم والقليل منا من يتصرف بعد تعليم هذه السياسة وبعد اكتساب المعرفة بها والتدريب عليها. وقد أشبه محاولة تغيير السمات الشخصية للآخر كمن يريد أن يغير الذكر إلي أنثي أو الأنثى إلى ذكر أو كمن يريد أن يحول عصفورًا رقيقًا إلي غراب أو يغير حمامة سلام إلي صقر همام أو قط وديع إلي ليث غضنفر.
وخلاصة القول أن نحذر من الوقوع في فخ الحرص علي تغيير الآخر خاصة في مرحلة ما بعد الطفولة، بل علينا أن نقبل الآخر علي ما هو عليه ونكون له إما رفيق قريب أو مجرد عابر سبيل خفيف. وإذا أردنا التغيير فلنغير أنفسنا لأجل الآخر لو نجحنا. وأكاد أزعم أنه لو تعلمنا وتدربنا على هذه الفلسفة لتقبلنا الآخر وتحملناه بنفس راضية واقتناع ولقل أسلوب التنمر والوعظ والإرشاد الذي يرفعه كلا منا سوطا علي الآخر يلهب به ظهر سماته الشخصية كلما حل الاختلاف والخلاف، فلا هو قادر علي تغييره ولا هو تاركه بلا ألم. وهنا يصبح الجميع سجينا لوتيرة الضغوط النفسية منتظرا المستحيل أن يحدث.
نعم، لو تعلمنا وتدربنا على فلسفة تقبل الآخر بسماته الشخصية والتعامل معه كرفيق أو عابر سبيل لارتحنا وأرحنا. وأنصح نفسي والآخرين وخاصة الشباب أن يري الحياة من هذا المنظور لكي يحيا هادئ البال بعيدا عن جلد الذات أو جلد الآخرين حتى لا نصبح جميعًا في محكمة أقمناها لأنفسنا لنتبادل فيها الأدوار بين قاض ومحام أو وبين مدعي أو مدعي عليه.
وطالما مازال فينا نفس فهناك الكثير من الفرص المتاحة لتقبل الآخرين.
مع خالص تحياتي
د. محمد لبيب سالم
أستاذ علم المناعة كلية العلوم جامعة طنطا - مصر
وكاتب وروائي وعضو اتحاد كتاب مصر
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات