"أَبُو القَاسِم مُحَمَّد بنِ عَبد الله بنِ عَبدِ المُطَّلِب رسول الله إلي الإنس والجن (22 ابريل 570 إلى 8 يونيو 632)"


إذا كان الله قد ابتلي العديد من الأنبياء والرسل بالمحن في ولادتهم أو طفولتهم أو صباهم أو شبابهم أو كهولتهم أو شيخوختهم مثل سيدنا آدم ونوح وابراهيم واسماعيل ولوط ويعقوب ويوسف وموسى وعيسى، فإن سيد الخلق أجمعين قد وقعت عليه الابتلاءات الشديدة التي كانت كل واحدة منها بكافية ليس على النيل منه صلي الله عليه وسلم ولكن أيضا القضاء علي الإسلام في مهده. ولكن سيدنا محمد صبـر واحتمل وابتسم ولم يدعوا على من عاداه وقدم المثل والقدوة في الصبر والرحمة والمغفرة.

ومن أشد اللحظات قاطبة علي الرسول بعد البعثة هي فترة المقاطعة في شعاب مكة لمدة ثلاث سنوات والتي قاطع فيها أهل قريش سيدنا محمد والسبعون الذين اتبعوه بالإضافة إلى مقاطعة معظم عائلات بنو هاشم وأبو طالب ومناف لمجرد قرابتهم للرسول. ومرت هذه السنوات العجاف بصعوبة بالغة بعد أن ذاق فيها الرسول والتابعين له الفقر والجوع والعطش وسط الصحراء. ثم جاء الفرج بعد أن رق قلب بعض سادة قريش علي خال الذكريات ومن معه وشعروا بأن هذه المقاطعة عار عليهم.

وما أن انفك الحصار الاقتصادي والاجتماعي حتى توفي عن الرسول أبو طالب والذي كان يدفع عنه أذى عامة أهل قريش. وحزن الرسول حزنا كبيرا على فقد عمه الذي كان يعضده ويشد من أزره ويحميه من بطش قريش. وازداد اذي سادة قريش ووصل الأمر إلى تطاول عامة أهل قريش علي الرسول أينما مشي في مكة. أذى بالقول والفعل والسب والقاء القاذورات علي الرسول والبصق عليه والرسول صابر رغم الحزن الكبير في قلبه.

ولم يمر شهران من وفاة عمه أبو طالب حتى توفت زوجته الحبيبة وقرة عينه وأم أولاده وعضده بكل معني الكلمة معنويا وماديا. توفت السيدة خديجة التي كانت تخفف عنه بالقول والفعل. حينئذ شعر الرسول الكريم بحزن بالغ تمكن من قلبه بعد أن فقد الحبيين عمه وزوجته. شعر بأنه أصبح وحيدا أمام صلف قريش خاصة أن عدد الذين استجابوا له وأسلموا من قريش بعد لمدة ١٠ سنوات من الدعوة ام يزيد عن سبعون بالإضافة إلى الثلاثون الذين هاجروا إلى الحبشة وبقوا هناك في كنف النجاشي ملك الحبشة الذي أسلم لاحقا.

وسمي هذا العام بعام الحزن بسبب الحزن الشديد الذي شعر به الرسول الحريم. وهنا بدأ بفكر الرسول في الخروج من مكة إلى أي بلد آخر لعل أهلها يستمعوا اليه وينصتون ويؤمنوا برسالته من الله. وكان قراره الذهاب الي الطائف والتي كانت أقرب المدن إلى مكة. وبالفعل هزم وتوكل علي الله وقصد الطائف هو وغلامه مشيا على الأقدام ومتوكلا علي الله. وعندما وصل إلى حدود الطائف ووجد ثلاثة أشقاء من سادتها تحدث إليهم فاستمعوا إليه ولكن للأسف أنكروا دعوته بشدة ورفضوا الإيمان برسالته بل انهالوا عليه بالسب هم وأهل الطائف ووصل الأمر أن رموه بالحجارة على قدميه الشريفتين حتى أدموا قدميه وسال منهما الدم. يلاحقونه بغلظة قلبوهم حتى وصل إلى مزرعة فدخل فيها هو وغلامه يختفيان من أهل الطائف. وهناك دعا الرسول الكريم ربا دعاء مؤثرا تنخلع له القلوب.

ظل بفكر الرسول كيف يدخل مكة مرة اخري بعد أن خرج منها. أرسل علامة الي ثلاث قبائل قريبة من قريش ليحموه ليدخل مكة ولكنهم للأسف رفضوا رفضا باتا خوفا من دخولهم في تحدي لقريش. ثم أرسل غلامه لقبيلة رابعة وكانت هي الفرصة الأخيرة. وانتظر الرسول الرد وكله قلق وخوف من الرفض. ولكن كانت الانفراجة الكبري عندما جاءه خبر موافقة سادة القبيلة على حمايته حتى يدخل مكة معززا مكرما في كنفهم. وبالفعل امر رئيس القبيلة اولاده وتابعيه أن يرتدوا لباس الحرب ليكونوا بجوار الرسول ليؤمنوا دخوله مكة حتى بيته. وبالفعل دخل رسول الله مكة في حمايتهم ولم يتعرض له أحد من قريش.

هكذا كانت العشر سنوات الأولي من البعثة التي قضاها الرسول الحبيب محمد في قريش كلها ابتلاءات من الله ومحن شديدة في كل نواحي الحياة. ابتلاءات شخصية واجتماعية ومادية ودينية وصلت للمقاطعة طيلة ثلاث سنوات والخروج من مكة والعودة اليها في ترقب وخوف وقلق. ورغم أن الله سبحانه وتعالي عرض علي الرسول الكريم أن يخسف بقريش الأرض ويطبق عليهما الجبليين، إلا أنه كان يدعوا كل مرة بالهداية لأهل قريش. ولم يدعوا إلا على المجموعة التي آذانه كثيرا وكانت تلقي عليه القاذورات يوميا أمام بيته وهو ساجد حتى احشاء البهائم المذبوحة ألقوها على جسده الشريف وهو ساجد لله. ولم يزحها عنه سوي ابنته فاطمة وهي تبكي بكاء حارا من هذه الأفعال الدنيئة. وبالفعل استجاب الله لدعوات رسوله على هؤلاء الشرذمة وقتلوا جميعا في غزوة بدر.

وفي النهاية قرر الرسول الهجرة إلى المدينة المنورة بعد أن قدم له الأنصار الدعم والوعد باستقباله هو واصحابه وان تكون المدينة مدينتهم واهلها أهله واهلهم. وبالفعل هاجر الرسول هو وأصحابه إلى المدينة في سرية تامة وكان الله حليفهم. وتمثل هجرة الرسول وأصحابه الي المدينة من أهم الهجرات التاريخية التي غيرت التاريخ والجغرافيا وكان لها أثر بالغ في انتشار الإسلام في ربوع المعمورة والانتصار على الروم والفرس وفتح البلاد في الشرق وأهمها مصر وشمال افريقيا ثم الأندلس لاحقا.

وصل الرسول المدينة المنورة في عمر الخمسين تقريبا بعد أن قضي ١٠ سنوات عجاف في الدعوة بين أهل قريش. وقضي الرسول الحبيب ١٣ عاما أخري في المدينة ليؤسس للدولة الاسلامية بطريقة مؤسسية. ولكن كانت السنوات الأولي من هجرته في المدينة قاسية. وابتلي الله الرسول وأصحابه بمواقف شديدة الصعوبة كانت كل واحدة منها كافية بالقضاء علي الاسلام لولا توفيق الله وصبر الرسول واخلاص نفر من الصحابة. فمن ناحية كانت قريش تتربص بالرسول من خارج المدينة وكان اليهود والمنافقين يتربصون بالرسول والمسلمين من الداخل. وظهرت ذروة تأثير هذا التهديد الخارجي والداخلي في غزوة الخندق (الأحزاب) وغزوة أحد.

ولم تمض شهور من غزوة بدر الكبري حتى اعدت قريش العدة لتنال من الرسول وأصحابه في موقعة "أحد" التي خطط لها الرسول تخطيطا عسكريا فذاً بأن خصص ٥٠ من الرماة فوق جبل أحدٍ وامرهم ألا يتركوا مكانهم مهما حدث ايفل الجبل في ارض المعركة. ودارت المعركة بقوة وكان الانتصار السريع للمسلمين علي قريش والتي فرت من أمام الابطال في السهول ولم يطبقوا سهام الرماة من فوق جبل أحد. ورغم وجود خالد بن الوليد في مقدمة جيش قريش الكفار، إلا أنه فر بجنوده أمام الروح العالية للأبطال. ولكن للأسف الشديد لم ينفذ الرماة اوامر الرسول حتى نهاية المعركة فتركوا مواقعهم فوق جبل أحد لينالوا من الغنائم ظنا منهم أن القتال قد انتهي.

وهنا حدثت الكارثة الكبري وتحول النصر إلى خسران مبين. فما أن لاحظ خالد بن الوليد بذكائه العسكري ترك الرماة اماكنهم حتى صرخ في جنوده أن يعودوا الي القتال وينقضوا على المسلمين الذين تفرقوا وانشغلوا بالغنائم. وبالفعل هجم خالد علي المسلمين هجمة مباغتة وشرسة فقتل منهم العديد. وكانت فرصة للعبد حبشي أن يتصيد الفرصة ويقتل برمحه سيدنا حمزة ويمثل بجسده والذي حزن عليه الرسول حزنا شديدا فقد كان سيدنا حمزة من الابطال الكبار الذي يحسب له الكفار ألف حساب.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل هجمت جنود قريش علي الرسول الكريم الذي كان بمفرده وأوقعوه في حفرة وضربوه على رأسه حتى سلب الدم من وجهه الشريف وكُسرت سنته الأمامية. وحزن الرسول واغتم بما حدث بسبب عدم تنفيذ أوامره وحزن على حال جيشه الذي كان منتصرا منذ قليل. وجري الصحابة نحو الرسول وهو يقاتل بنفسه وتقاتل عنه امرأة وابنها قتالا شديدة حتى أصيبوا بإصابات بالغة. ولم ينجح الكفار في قتل الرسول بفضل الله ودفاع هذه المرأة القوية المخلصة وابنها. فقد كانت بجوار الرسول بألف رجل. إنها نسيبة بنت كعب الأنصارية الخزرجية الملقبة بأم عمارة. وجرحت ام عمارة ١٢ جرحا غائرا وهي تدافع عن الرسول الكريم.

وأقبل الصحابة يحاولون وقف النزيف من الرسول وخلع القلنسوة الحديد من على رأسه بصعوبة بالغة حتى استطاع طلحة أن يخلعها بأسنانه حتى تكسر معظمها. وهو مصمم علي انقاذ الرسول الكريم. وانتهت المعركة وحزن الرسول حزنا منقطع النظير على خسائر المسلمين وخاصة الشهداء الذين كانوا من الابطال ومن حفظة القرآن ومن كبار وشباب الصحابة. وهكذا كانت موقعة أحد من المواقع التي حدثت فيها ابتلاءات شديدة علي الرسول الحبيب، ابتلاء فيه أذى شخصي وابتلاء سياسي وابتلاء في أصحابه.

لم تنس قريش هزيمتها في بدر رغم قلة عدد وعتاد المسلمين كما أنها كانت أول احتكاك حقيقي واعداد جيش من المسلمين بخطة محكمة ومواجهة مباشرة مع العدو الكافر. وانتصر المسلمون رغم قلة عددهم بتأييد من الله ولأنهم كانوا علي قلب رجل واحد وأنصتوا واطاعوا تعليمات الرسول القائد الكريم. وكانت نتيجة غزوة أحد مشجعة في الهجوم مرة أخري على المسلمين في المدينة المنورة.

خططت قريش وعلي رأسها أبو سفيان في تجييش أكبر عدد معين لقتال المسلمين في عقر دارهم بالمدينة والقضاء عليهم. ولكي يضمنوا ذلك اقنعوا يهود بنوا قريضه في نقض عدهم المكتوب مع الرسول بأن يكونوا حلفاء ولا يسمحوا للأعداء بالهجوم على المسلمين من خلالهم خاصة وأن موقع بنو قريضه كان محوريا واستراتيجيا لأنه يحمي المدينة من الجنوب الشرقي.

وبالفعل في العام الخامس من الهجرة وفِي شهر شوال جٓيٓشٓ ابو سفيان ثلاثة آلاف مقاتل من القبائل المختلفة وأصبح ضامنا لبنو قريضه بعد أن أعلنوا عن نقض عهدهم ومحاولة قتلهم نساء المسلمون المتحصنون في المدينة بعيدا عن جيش المسلمين الذي كان قد وصل الي ثلاثة آلاف. ولكن للأسف ترك المنافقين الرسول ورجاله وتبعهم آخرون ولم يبقي مع الرسول سوي ٣٠٠ نفر من أصحابه ورجاله وهو عدد قليل جدا مقارنة بالجبهة الشمالية من قريش وتعدادها ٣ آلاف وجبهة بنو النصير وتعدادها ٧٠٠ مقاتل بالإضافة الي جبهة المنافقين.

شعر الرسول بتأزم الموقف رغم تنفيذه فكرة الخندق الرائعة التي أشار بها الصحابي سلمان الفارسي. واستمر حصار قريش للمسلمين ٤٥ يوما حاولوا فيها عبور الخندق ولكن كل محاولاتهم باءت بالفشل والحمد لله. وكادت قريش أن تدخل المدينة من خلال بنو قريضه ولكن الله سبحانه جعل أحد المشركين يسلم وسط كل هذه المتناقضات لصالح قريش.

وكان هذا الرجل وهو نعيم بن مسعود سببا في تحول القوة لصالح المسلمين بفعل خطته الذكية التي أوقع بها الشك والريبة والخداع بين قريش وبنو قريظة. وبالفعل نجحت خطته وتفشل الحلف بين قريش وبنو النضير. وترسل الله رياحا شديدة هزت الكفار منه جعل ابو سفيان يقرر بعودتهم الي مكة. وهكذا كفي الله المؤمنين القتال خاصة بعد أن نفذت مؤنتهم واشتد عليهم البرد والخوف وبلغت قلوبهم الحناجر من هول الموقف. ورغم ظهور العديد من المعجزات للرسول الحبيب اثناء حفر الخندق وأثناء الحصار الا أن المسلمون كانوا قلة قليلة ومن غير زاد ولا عتاد يضاهي ما عند قريش. ولكن كانوا صابرين وظلوا بجوار الرسول حتى آخر لحظة.

وبعد ٤٥ يوما من الحصار والظروف الجوية الشديدة الصعوبة من البرد والظلمة الحالكة والبرد القارص وقلة الموارد وانفتاح الجبهات، حدثت المعجزة الالهية وهبت الرياح الشديدة التي كانت شدتها على جيش قريش اشد من شدتها على جيش الرسول الحبيب. فما كان من ابو سفيان الا أن يأمر جيشه بالرحيل أمام هذه الرياح الشديدة وامام شكه في دعم بنو قريضه. وبالفعل رحلت قريش ورجع الرسول بالثلاثمائة رجل إلى المدينة بعد معاناة طويلة. وواجه بنو قريضه بما فعلوا من خيانة عسكرية واعتدائهم على حصن النساء. وكان العقاب شديدا لبنو قريضه اليهود جزاء بما أقدموا عليه من خيانة عسكرية ونقض العهد المكتوب. واستتب الامر في المدينة وطهر بوضوح من هم الرجال ومن هم المنافقين.

ومرت السنوات حتى السنة الثامنة بعد الهجرة وبعد فتح مكة الحدث للكبير الذي هز اركان مكة وجعل الكعبة خالية من الأصنام وكبر المسلمون ودانت لهم الأرض وعادوا الي ديارهم التي تركوها من ٨ سنوات مهجرين والآن رجعوا وهم فائزين. ولكن كانت هناك قبيلة خزاعة المجاورة لمكة بمنطقة الطائف والتي أجمعت أمرها وجيشت الجيوش لمحاربة الرسول ومحاولة القضاء على هذا الفتح المبين. وبالفعل استطاعوا في وقت قليل أن يجمعوا ٢٠ ألف مقاتل متمرس وكان عدد مقاتلي المسلمين مع الرسول بعد الفتح حوالي ١٣ ألف مقاتل منهم ٣ الاف مقاتل من الطلقاء من اهل قريش الذين أطلقهم الرسول بعد الفتح ومنهم من ايام ومنهم من بقي على كفره حتى ينظر الرسول في امره بعد اربعة أشهر.

وزحف جيش الرسول حتى ارتكز على مرتفعات حول وادي يطلق عليه حُنين. وشعر الجيش بالقوة والعتاد والعدد حتى تفاخروا فيما بينهم بأنهم لن يُهزموا بعد اليوم. وكان في المقدمة خالد بن الوليد والذي كان قد أسلم. وعند هبوط خالد بأول فرقة من جنوده من على المرتفعات بحرص شديد ناحية الوادي فوجئ بكمين ينهال عليه من كل جانب من جنود خزاعة. ولأن المرتفعات كانت لا تسمح للجنود بالتحكم في أنفسهم وخيولهم اثناء الهبوط فلم يستطيعوا الرد على الكمين وحدث هرج ومرج وقتل عدد كبير من فرقة خالد الاولي والثانية حتى اصيب خالد نفسه بطعنات شديدة وجراح في كل جسده.

وفي هذه الموقعة فر كل الجيش ناحية مكة ولم يبقي مع الرسول سوي ١٠٠ مقاتل. وظل الرسول يقاتل بنفسه ومع بعض الصحابة وهو ينادي بأعلى صوته في الناس أن يعودوا حتى طلب من العباس بن عبد المطلب والذي كان يتمتع بصوت جهوري وقوي أن ينادي في القوم الفارين ليعودوا. وبالفعل بدأ الكثير منهم يعود بعد أن علموا بأن الرسول حبس ولم يناله أذى. وظهرت المعجزات أمام الجميع وامام جيش خزاعة أنفسهم فكانت تلك المعجزات سببا في فرارهم أمام هذا العدد البسيط من جنود الرسول. فقد أظهر ال ١٠٠ مقاتل بطولات فيها اعجاز فقد كانوا يقتلون في الاعداء كما يشاؤون ويحصدونهم حصدا. وكانت تلك معجزة بكل المقاييس أن يحارب ١٠٠ مقاتل جيش تعداده ٢٠ ألف مقاتل ويقتل فيهم كما يشاء.

وكانت المعجزة الثانية نزول الملائكة لتحارب مع هؤلاء القلة حتى يعود من فر. ولكن لم تحارب الملائكة فمجرد أن رآهم جيش الاعداء في هيئة جيش ليس له أول ولا آخر فروا من أرض المعركة ناحية الطائف ولاحقهم جيش المسلمين حيث كان قد عاد معظمهم وانضموا الي الرسول. وهكذا كانت معركة حُنين كلها ابتلاءات للرسول على مستوي ايذاءه شخصيا وعلى مستوي اصحابه وعلى المستوي السياسي وكان هناك تهديدا كبيرا للقضاء علي الاسلام بعد أن تم فتح مكة وظهور المسلمون ظهورا قويا وعادلا ومنصفا ودخول معظم اهل قريش في الاسلام. كان الموقف والتوقيت عصيبا والاحداث مخيفة علي الاسلام ولكن رحمة الله وثبات ودعاء الرسول هي الأقوى وانتهت بالانتصار الكبير.

وبالإضافة إلى كل هذه المواقف الصعبة قبل الهجرة وبعد الهجرة وبعد العودة الي مكة وفتحها، هناك ايضا مواقف شديدة كانت ابتلاء من نوع خاص للرسول في أكثر قلب أحبه وهي السيدة عائشة. رضي الله عنها وهي ما هي الصديقة بنت الصديق أبو بكر رضي الله عنه. وكان هذا الموقف هو حادثة الافك التي كان ورائها رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول. وهذه القصة معروفة لكل مسلم وذكرها يؤذي كل مسلم وكل صاحب مروءة وشهامة واخلاق وكل عربي أصيل للإساءة التي نالت من سمعة السيدة عائشة زوجة الرسول الكريم وهي من أشرف النساء وأطهرهن.

وقد تسبب هذا التشهير بالسيدة عائشة باذي بالغ للرسول الحبيب لدرجة أنه قاطعها لمدة شهر وهي أحب النساء الي قليه وابنة صديقه وخليله سيدنا أبو بكر الصديق. واستمرت المقاطعة حتى زارها الرسول عندما مرضت بسبب ما ألم بها نفسيا وجسديا بعد أن علمت بالإشاعة بعد أيام من إطلاقها بين الناس في المدينة. تعجبت كيف للناس أن يصدقوا اتهام عبد الله ابن ابي سلول في شرفها مع أحد اصحاب الرسول والمعروف هو الآخر بعفته. وما أذاها نفسيا أكثر هو موقف الرسول ومقاطعته لها واحتمالية تصديقه لهذه الإشاعة الحقيرة.

وتعود هذه الإشاعة إلى وقت عودة الرسول ومعه جيش المسلمين من غزوة بنو المصطلق والتي صاحبت فيها السيدة عائشة الرسول بعد أن وقع سهم الاقتراع عليها لاختيار إحدى زوجات الرسول لترافقه في الغزوة وهو الأسلوب المتبع في ذلك الوقت. وفِي العودة من الغزوة أمر الرسول الجيش بالاستراحة لقضاء الحاجة والراحة لبعض الوقت. وعندما أمر الرسول باستئناف السير عادت السيدة عائشة لتركي هودجها كباقي السيدات لتلحق بالقافلة. ولكنها اكتشفت فقدان عقدها فطنت بأنها نسيته في المكان الذي كان فيه قضاء الحاجة وذهبت لتحضره ولكن للأسف عند عودتها لم تجد القافلة فقد رحلوا ولَم يتلمس أحد عدم وجودها بسبب الهودج والحجاب وغض النظر عن النساء.

وهنا حزنت السيدة عائشة ولَم تدري ماذا تفعل. ولكنها تبقي كما هي حتى لا تضل طريقها وجني يعود أحدهم ويأخذها. وبالفعل وجدها الصحابي صفوان الذي كانت مهمته تفقد المنسي من القافلة بعد رحيلها مثل المتاع أدوات الحرب أو بعض المفقودين. ولما وجدها عرفها لأن كان قد رآها قبل الحجاب. وهنا غض بصره وأناخ الجمل حتى ركبت هودجها ثم اتجه سيرًا بالجمل ناحية القافلة حتى وصل إليهم وكان الليل قد حل على الجميع. وهنا صاح المنافق عبد الله بن سلول بأنه قد حدث شيئا بين السيدة عائشة وصفوان. ونشر هذا الخبر ولَم تعلم به السيدة عائشة في حينه لأنها تعاملت مع الموقف ببساطة وعفوية.

ولما انتشرت الإشاعة في المدينة وعلم الرسول حزن حزنا شديدا لم يشعر به من قبل بسبب نوعية الابتلاء من رأس النفاق بن سلول وبسبب حبه الشديد لعائشة وبسبب انها زوجته وهو رسول الله. وهنا قرر الرسول أن يجتنب السيدة عائشة حتى يقضي الله شيئا كان مقدورا. وبعد شهر من مقاطعته لها، زار الرسول الكريم السيدة عائشة في بيتها عند أبويها ليطمئن عليها بسبب المرض الذي ألم بها من جراء هذا التشهير اللعين الذي ظلمها ظلما بينا. تحدث الرسول اليها وطلب منها أن تتوب إذا كان هناك شيء ما أو سيبرئها الله. وهنا اغتمت جدا السيدة عائشة بسبب احتمالية تصديق الرسول الاشاعة فردت علي الرسول ردا لينا ولكن معبرا عن حالة الظلم التي تشعر بها فدعت كما دعي سيدنا يعقوب عندما شعر بخيانة أولاده ليوسف عندما قال ربي أنى مظلوم فانتصر ثم خبأت نفسها في ردائها وانخرطت في البكاء حزنا على نفسها.

ولم تمضي دقائق حتى نزل الوحي على سيدنا محمد أمام السيدة عائشة وسيدنا أبوبكر الصديق وأمها. وهنا صاح الرسول فرحا ابشري يا عائشة فقد برئك الله. وكانت لحظة تاريخية شرحت صدر الجميع وازاح الله الغمة وكشفها بعد مرور شهر عصيب وفضح الله المنافقين أمام جموع المسلمين. وكانت حادثة الأفق هذه من أشد الأزمات النفسية والابتلاءات التي أبتلي بها الرسول في أعز من يحب.

وهكذا نري أن الرسول الكريم رغم حب الله له فوق حب كل العالمين إلا انه كان أشد المبتلين منذ مولده حتى لقي وجه ربه الكريم. وترك رسولنا الحبيب أسوة ومثال نحتذي به وقت الشدائد. فمهما ابتلينا فلن يصل الابتلاء قيد أنملة من ابتلاءات الرسول ومهما صبرنا فلن يصل صبرنا قيد أنملة من صبر الرسول. ولم يطلب الرسل جاها ولا سلطانا ولا مالا ولا حسبا ولا نسبا ولكن طلب الهداية والعفو لأمته. ولم يطلب العقاب لمن ظلموه ولكن طلب لهم الهداية. ولم يطلب البقاء والخلود في الدنيا بل طلب وجه الله بعد أن أدي رسالته.

والدنيا فكلما طال البقاء فيها كلما زاد الشوق والحنين للقاء الله. فهنيئا لمن لم يعمر ليلقي الله في بقلب سليم.

"اللهم صلي وسلم وبارك علي سيد الخلق أجمعين وأكرم المرسلين سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين"

مع خالص تحياتي

ا.د. محمد لبيب سالم

أستاذ علم المناعة كلية العلوم جامعة طنطا

كاتب واديب وعضو اتحاد مصر



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات د. محمد لبيب سالم أستاذ جامعي واديب

تدوينات ذات صلة