اصم قادر على سماع الموسيقى

كلنا نعرف ان الموسيقى تُسمع بحاسة السمع, لكن ماذا ان فقدتها ؟

يبتغيني الشؤم على حظي السيئ لعدم امتلاك القدرة على السمع، كأنها وصمة عار على جبيني معلقة بأكبر الحروف ومزخرفة، كأنني في سباق احصنة ولا امتلك الا قدماي ، اشعر باني في اخر السباق انظر لقوة الاحصنة وهي تخبط في الأرض دلالة على سرعتها، هذا هو سمعي الخاص ، "المشاعر" ، هي التي توحي الي بما يحصل امامي ، نعم انها اذني المميزة وورقتي الرابحة في التنافس في سباق فيه لا أكون ذا الاسبقية.

كنت جالسا مع الطبيب لنناقش مدى سوء وضع اذناي ، قال بانه هنالك احتمال بانه سيرتد الي السمع بمنبه داخلي الذي هو السبب اصلا في خسارتي السمع (الصدمة)، اذا استطعت الخروج من اثر الصدمة قد استطيع العزف مرة أخرى ، لأن سمعي لم يفقد بمؤثر خارجي كصوت قنبلة او ما شابه، نعم….قد فقدت سمعي عندما كنت احضر حفلة موسيقية لزوجتي مع احد أصدقائي ، كانت هي وفرقتها تعزف اعذب لحن قد مر على سمعي ، ولكن لسوء الأحوال الجوية ،وبينما انا غارق في عزف زوجتي على البيانو ، لم نلقي بالا لأعمدة المسرح المفتوح وهي تخرج من اماكنها وتتحرك صوب الفرقة ، لتقع عليهم في مشهد مأساوي قد قضى على معظم الفرقة ، المأساة التي حصلت كانت هي السبب في خسارتي لحاسة السمع ، لأنه وبينما كنت في اوج سعادتي وانا أرى زوجتي تعزف افضل مني على البيانو ، قد انقلب الوضع في بضع ثوان كانت هي الأسوء في حياتي ، اثر الصدمة او التحول من سماع لحن "هيلين" على البيانو لسماع الاعمدة وهي تسقط امام عيناي على "هيلين" ….كان مشها مرعبا وتحولا مرعبا افقدني حاسة السمع …ولم استطع سماع الموسيقى بعد ذلك …حتى معزوفتي المفضلة لي ول "هيلين" ،" soundscape to ador" ، للمبدع الياباني " Shiro Sagisi " ، كانت هذه المعزوفة هي سبب لقائي بهيلين عندما كانت تحضر احدى حفلاتي الموسيقية وبالصدفة كانت معزوفتها المفضلة أيضا ولقد اعجبت بأدائي ، ثم أتت الي بعد الحفلة وتعرفنا على بعضنا ومرت الأيام وصرنا نكتشف أشياء جديدة مشتركة بيننا في عالم موسيقى البيانو، وانتهى الامر بزواجنا وكنا سعيدان مع بعضنا الى ان اتى ذلك اليوم…..

مرت ثلاث سنوات ، كانت تقول لي : "ان الموسيقى يا "هاورد" لا تسمع فقط بأذنيك ، بل بقلبك وعينيك أيضا كلها وسائل ليتسنى لحواسك جميعها الاتصال مع الالحان وتركز في جمالها وعبق نورها المضيء " ، كانت هذه الكلمات منها قد جعلتني استمع بعدها لموسيقاها بحواسي جميعها وقد صدقت في قولها آنذاك ، الاستماع للموسيقى بكامل حواسك يجعل عيناك ترى تفاصيل تقلب حال العازف، وتسمع لعزفه بأذنيك ، وبقلبك تستطيع الشعور بمشاعره أيضا حسب نوع الموسيقى التي يعزفها ، ان كانت سعيدة ينقل اليك السعادة ، وان كانت حزينة ينقل اليك احزانه وحزنه حتى تتصلان معا عن طريق الموسيقى ، هذا هو الاتصال الكامل كما علمتني هيلين ، وكان السبب في براعتي وشهرتي في وصف الموسيقى بوصف لم يخطر ببال احد سوا هيلين ، كانت هي السبب في تقدمي في مجال الكتابة بعد خسارتي لحاسة السمع مما أدى لعدم قدرتي على عزف المعزوفة المفضلة لي ولهيلين والموسيقى بشكل عام، لان العنصر الاساسي في العزف والاستماع هو الاذن

حاولت التشبث الموسيقى قدر الإمكان طوال هذه السنين الثلاث المشؤومة، حتى انني كنت لازلت احضر الحفلات الموسيقية وكنت قادراً نوعا ما على التفاعل بالحواس الأخرى كما اخبرتني هيلين ، لكن تبقى الاذن هي العنصر الأساسي لذا قد اعتزلت الموسيقى للابد او حتى يرجع سمعي اذا كنت محظوظا.

مرت الأيام وانا لازلت أحاول عزف المقطوعة المفضلة لي ولهيلين ، لكن وبينما انا في خضم عزفي شعرت بهزة طفيفة ، كان ذلك اثر اشعار لرسالة من صديقي قائلا بانه عند باب شقتي ويريد الدخول، فتحت له الباب واراه ممسكا بورقة اعلان عن طلب عازف محترف لأداء مقطوعتين موسيقيتين من البيانو ، تكون الأولى من اختيار الجمهور والأخرى من اختيار العازف ، كان يلهث بشدة وحماسه المفرط كان السبب في عدم فهمي لطريقة كلامه بلغة الإشارة او حتى النظر لشفتيه ومحاولة فهم ما يقول ، الا ان هدء قليلا وشرح لي ما يريد ، لكنه حتى وهو يعلم بحالتي قد اصر على ذهابي لذلك الحدث ، قائلا بانه يمكن يان يرجع حاسة السمع لي ، وب نقاش ويل وتشجيعه الكبير لي وطريقته المضحكة في أداء لغة الإشارة ، قد وافقت على الذهاب بشرط ان اعزف المعزوفة الأولى من اختياري والثانية من اختيار الجمهور ، ذهبنا وتكلمنا مع المسؤول عن الحدث وقد وافق على الفور لان خبر فقداني لسمعي لم يصل للناس ، اذ انني اعتزلت الموسيقى بلا سبب بنظرهم ، جلست على البيانو ويتملكني التوتر بشدة ، وضعت اصابعي واخذت نفسا عميقا جدا ولم اعلم ان صوته قد ازعج الجمهور.

قلت في نفسي: "هانا اذا يا هيلين اعطيني قواك لتساعديني " ، بدأت عزف المقطوعة المفضلة لي ولهيلين، بات العزف بشكل جيد اذ انني معتاد على عزفها جيدا ، لكن قد خارت قواي في منتصف عزفي لأنني لست قادرا على الاتصال مع البيانو ، استطيع سماع ضحك الجمهور وسخريتهم مني بانني قد هلكت قواي وأصبحت من الماضي ، بقيت أحاول حتى توقفت عن العزف وجلست اناظر في وجوههم ، وماهي الا ثواني وعيناي تبرقان في وجه احداهن " انها تشبه هيلين … تشبهها تماما كأنها هي !!! " ، جالسة تنظر بتمعن الي وتنتظر مني العزف كما كانت هيلين في ذلك اليوم الذي عزفت هذه المقطوعة ، أرى على جبينها اسمي ، لابد انها من المعجبين بعزفي ، نظرت اليها الا وهي تقوم وتصرخ وتهتف ناطقة باسمي وتشجعني او هذا ما اظنه من قراءة شفتيها ، قامت تصرخ وتهتف الا وبملاك يخرج من البيانو ليصفعني ! ، وجهت نظري اليه الا وهي هيلين ! ، تقول لي : " الم اخبرك بالا تنظر لغيري ! انت تعرف ان هذه المشجعات تغيظني ، بدأت بالضحك في وسط الهدوء حتى ان الجمهور قد توقف عن الضحك وبقي خائفا من هذا المجنون الذي يضحك بشدة ، "من قال بانك قد فقدت سمعك يا عزيزي ، انك فقط في حالة من الصدمة ..لا تستمع لذلك الطبيب وامن بي وساريك بانه على خطأ ، قالت لي هذه الكلمات ودموعها قد جعلت يدي الجافتان المتجمدتان تتحركان بحرية الان ..شعرت بيدها الرقيقة وهي تمسك بيدي وتضعها على البيانو وبدأت العزف معها وانا اسمع تمتمتها للمعزوفة ، يا جمال المقطوعة ، يا لجمالك يا هيلين ، يا لجمال البيانو ، عزفت باحترافية وعيناي تدمع من الفرح من الاتصال مع البيانو أخيرا ، انتهيت من عزفها وما هي الا لحظات حتى كادت اذناي تنفجر من صوت تصفيق الجمهور ، صوت تصفيق !! ، انا ؟ استطيع سماعهم، استطيع سماعهم !!!!!!، هيلين أترين هذا؟!، لقد اعجبوا بأدائنا، استطيع السماع بفضلك مرة أخرى !!!! لقد استرجعت قدرتي على السماع مرة أخرى!

احبك يا هيلين ….شكرا لك! ، اعلم انك ستكونين حاضرة في كل حفلة لي لكي تمنعيني من النظر لاي مشجعات لي ولتحرصي على ادائي في العزف على البيانو ،

في خضم فرحتي بكل هذه الاحداث التي حصلت قد اختار الجمهور المعزوفة الأخرى التي يجب علي عزفها ، الا وهي معزوفتي ذاتها ، لقد اعجبوا حقا بأدائنا يا هيلين أترين هذا !؟ ، جلست على البيانو ، علمت انها المرة الأولى التي سأعزف بها بعد استرجاعي لحاسة السمع ، يا لها من نعمة عظيمة ! ، اشكر الله عليها ، واشكر الله على هيلين ، لأنني لم اكن لاسترجعها الا عن طريقهما ، احبهما كلاهما ، الله ….وهيلين .

------------------------------------------------النهاية----------------------------------------------