يقال أن التغيير هو الشيء الثابت في هذا العالم، هذا الأخير يطول كل شيء حتى ولو كانت تحكمه قواعد.

قواعد كسر القاعدة



أن تكون مبدعا في عصرنا هذا، ليس بالشيء السهل أبدا، أن تكون فنانا ليس رفاه. ولا أقول فنانا هنا بشكل سطحي وإنما صناع الإبداع في المجالات الإبداعية وأصحاب الأفكار والخيال الجامح. فلو أخذنا كاتبا أراد أن يكتب رواية في وقتنا الحالي، كل فكرة ستخطر بباله سيجد أن المئات إن لم يكن الآلاف قد سبقوه لها، وكل حبكة سيجدها قد استعملت ما لا يحصى من المرات في أعمال كتب لها أن تخلق قبل عمله. فماذا سيحل بهذا المسكين التواق للسبق في الكتابة لفكرة مبتكرة؟ ماذا لو قيل كل شيء ولم يبقى شيء ليقال؟


لقد فتحت عيني في عالم الكتابة، بالضبط في مدينة الشعر. وكمولود جديد يستكشف عالمه رويدا رويدا أخذت تسيرني فطرتي. أكتب بفطرتي قصائد خام، قصائد بريئة بلغة لازالت تتلعثم وإحساس طفل فرح بلعبته. لقد كنت فرحة بلعبتي التي أتتني من حيث لا أحتسب. أستمر باللعب، أقصد بالكتابة، وأقفز فرحة واندهاشا عند كل قافية. كانت رنات القوافي على مسمعي تشعرني بنشوة فأضحك كالطفل الذي يسمع الصوت الصادر من لعبته ويتحمس، بل ويصل به الأمر إلى تخريبها فقط ليكتشف ما بداخلها ومصدر ذلك الصوت، مخاطرا بإمكانية إعادة تجميعها أو أن تبقى مدمرة إلى الأبد. إلى حين إتمامي لقصيدتي الخامسة أو الساسة، عندها بدأت آخذ الأمر بجدية قليلا. أردت أن أكتب كما يكتب الشعراء وأنظم الشعر على أصوله، أدرس بمدارسه، أسبح في بحوره وفقا لتياراته، وأنقل كتاباتي البدائية نحو الحضارة. لكن وهيهات من لكن، رغم النضج الذي حصلت عليه من إرادتي بصقل مهارتي في الشعر والكتابة عموما، لازالت رغبة الطفلة الصغيرة داخلي بتفكيك اللعبة قائمة.


لذا لو كنت ممن يملكون موهبة تندرج ضمن المجالات الإبداعية شغوف بها وملم بتفاصيلها. ويخالجك أحيانا شعور يحثك على تجاهل بعض التفاصيل الصغيرة أو تغييرها دون إحداث أي ضرر، ليس جهلا أو استخفافا بها بطبيعة الحال، بل بالعكس تماما، لإدراكك التام بها ما يجعلك على ثقة أنك مؤهل لإعادة عجنها حسب قوامك وصياغتها حسب معاييرك. فاستمر، لعلك تصنع مدرسة جديدة خاصة بك. لا تكن جبانا يحمي نفسه تحت سقف القواعد خشية من عاصفة النقد. لا يمكنك أن تبدع أو أن تتفنن في شيء ما إلا وأنت واقع في حبه، فالحب لم يخلق للجبناء والفن كذلك.

لا تكن جبانا يحمي نفسه تحت سقف القواعد خشية من عاصفة النقد. لا يمكنك أن تبدع أو أن تتفنن في شيء ما إلا وأنت واقع في حبه، فالحب لم يخلق للجبناء والفن كذلك.


يقال أن التغيير هو الشيء الثابت في هذا العالم، هذا الأخير يطول كل شيء حتى ولو كانت تحكمه قواعد. فالتغيير يضمن الاستمرارية، يطرد التكرار ويقتل الرتابة، يخصب الإبداع، ويرسم معالم غذ جديد. ولربما هذا الكلام سيظنه الكثير أنه تحريض للتمرد على المدارس الكلاسيكية. بالعكس تماما، سيكون امتداد لها، مشتقا منها، وعائد إليها. يمكننا إذن ترجمة ما سبق بالمثال المغربي "الجديد له جده والبالي لا تفرط فيه". فلا يستطيع أي أحد كسر القواعد دون كسر عمله الإبداعي إلا رواد المجال. ولو لم تكن هذه القواعد مهمة أساسا لما فكرت أصلا بقواعد لكسر القاعدة، أي يوجد الجواب منذ البداية في العنوان. وذلك لكيلا نصبح وسط فوضى حقيقية وتطفل عارم، لأن التغيير والتجديد لا يتمان إلا بعد فهم وهضم جميع القواعد والركائز المتعلقة بالعمل وليس عن جهل أو لصعوبة الفهم والتطبيق أو لمجرد التمرد.


ومنه فالمقصود بكسر القاعدة هو أن تعطي لنفسك مساحة تلعب فيها كما تشاء كي تصنع أسلوب، بصمة، أيقونة، هوية خاصة بك. بل حتى أن تصنع مدرسة خاصة بك لما لا؟ ولكي تبتعد عن تقليد أو اتباع من سبقوه فقط لتضل بأمان وأن تجعل من نفسك استثناء. بتعبير آخر، لا تكسر القاعدة بمعناها الحرفي كي تلغى وإنما لكي تأتي بقيمة مضافة لها، هذه القيمة تتلخص فيك أنت كمبدع.

لذا أضع لنفسي ثلاثة قواعد:

  • القاعدة الأولى: الفهم الجيد لآليات العمل الإبداعي والاطلاع على القواعد المختلفة لشتى المدارس الرائدة في المجال.
  • القاعدة الثانية: أن تكون ذكيا ماكرا، حيث التغيير أو التغييرات التي ستقوم بها يجب ألا تجعل عملك الإبداعي يخرج من تصنيفه. كمثال لو كنت تكتب شعرا حاول أن تصنع أسلوبك الخاص في الكتابة لكن لا يجب أن تحدث تغييرات "تحت عذر هذا أسلوبي" تجعل عملك في نهاية المطاف نثرا لا شعرا مثلا.
  • القاعدة الثالثة: أن تطبق قاعدتك المعدلة في أعمالك بشكل متكرر وليس بالضرورة دائم. كي تصبح قاعدة قائمة بذاتها. حيث سيصبح لك بشكل تلقائي أسلوب خاص بك. فمهما تغيرت أنواع كتاباتك ومواضيعها ستظل تحمل البصمة ذاتها.

وعند هذه النقطة بالضبط (القاعدة الثالثة) سأفسرها أكثر من خلال مشاركتكم تجربتي الصغيرة والمتواضعة مع الشعر. كانت لا تحلى لي كتابة قصيدة ما إلا وأن أشعر كأنما قصة مختصرة. أي لا أتكلم بشكل عام، مثلا لا أختار موضوعا كالخيانة، الحب، الحزن... وأكتب شيئا مركبا يتماشى مع الكلمة التي ستعطيني قافية في آخر البيت. لا، كنت أتصور قصة، أنشئ لها قالب، أختار المكان والزمان، أضع شخصياتي، أبدأ القصة، وأكتب القصة شعرا. ما أود قوله إني كنت أفعل هذا عن غير قصد ودون وعي مني، كنت عندما أكتب أفعل الشيء ذاته دون أن أدرك. تختلف الأماكن والأحداث لكن دائما هناك قصة وهناك قوافي. انتبهت للأمر، عندما نبهي بعض أصدقائي، قالوا لي نشعر كما لو أننا نقرأ قصة على طريقة الشعر. عندها لم أكن أعرف كيف أرد، حتى أني لم أكن أعرف هل بإمكاني تسمية ما أكتبه شعرا أو لا؟ وتلقيت هذه الملاحظة عدة مرات وكان هذا الأسلوب يعجب كثيرا من يقرؤون لي ولو أنهم يحسبون على رؤوس الأصابع. وفي يوم من الأيام صادف أن قرأ شخص متخصص في الأدب بعض قصائدي وأبدى لي بعض الملاحظات في رسالة على إحدى مواقع التواصل الاجتماعي كان مفادها أنه يتمنى لي التوفيق وأن أستمر وأطور موهبتي أكثر، كما أنه كانت لديه نفس ملاحظة أصدقائي. فسألته متلهفة هل حقا يعتبر هذا شعر؟ فأجاباني: "إنه ببساطة شعر بطريقتك الخاصة، تكتبن كما لو أنك تحكي لنا قصة أو بالأحرى تصورين مشهدا منها وهذا ليس غريبا على الأدب العربي، فيوجد ما يسمى بالشعر القصصي. فلقد جعلتنا مشاهدين أكثر من كوننا قراء، كنا حاضرين في قاعة المحكمة في قصيدة دمت بريئا رغم ثبات الإدانة وأجلستنا بالمقهى بجانب الفتاة العشرينية والرجل الأربعيني وشهدنا وداعا في السهرة الأخيرة...". وحثني أن أطور نفسي أكثر وألا أكتفي فقط بهذا القدر لأن الطريق أمامي مازال طويل. عندها زال شكي وأدركت أنني وإن فككت اللعبة سأتمكن من إعادة تجميعها.


ولكي أزيل الضباب الذي لا زال يشوش صفاء ذهنك، سأطرح السؤال بصيغة أخرى. كيف يمكنني أن أصنع أسلوبا خاص بي وأتحرر إبداعيا في عملي دون أن أجعله خارج التصنيف؟ تابع معي للأخير إذن.


لو استعمل نزار قباني في شعره مصطلحات من قبيل السيف، البيداء، القمر، الخيل، الصحراء، الفرسان...لما كون مدرسة خاصة به وشعرا يمكن معرفة صاحبه حتى دون أن يوقع تحته. فبدل ذلك استعمل مصطلحات كالتلفون، أحمر الشفاه، الدش، التلفزيون، البرقيات، البترول، بل حتى أنه لم ينسى قرص الأسبرين. دون أن ينقص من رونق القصيدة ومن مقامها. إن حداثة شعره، بالنسبة لي، لا تكمن في النص الشعري في حد ذاته أو في نوعه. وإنما في مصطلحاته، في لغته. بالإضافة إلى الروح التي ينفخها في نصه الشعري روح خاصة لا يمكن أن يتقاسمها اثنان. شخصيا أرى أن هذا سر مدرسة نزار قباني وليس في أن شعره شعر حر وجديد لا يتبع لنظام الشطر الأول والثاني ولا حتى في الطابوهات التي عالجها من خلال أشعاره والتي أحدثت ضجة. لكن هذه الأخيرة لم تكن أقوى من ضجة شعره في أذهان وأفئدة القراء. وأصر كثير أن ما يكتبه نزار قباني لا يعتبر شعرا، لكن مهما أصروا، لم تصنف كتابات نزار قباني في شيء آخر غير الشعر. وحتى من ليس لهم شأن في الشعر اسألهم عن شاعر معروف، أول من سيخطر بذهن أغلبهم إن لم يكن جلهم هو نزار قباني. لأنه ببساطة كسر القاعدة ولم يكسر الشعر. لقد كتب الشعر بلغة جديدة وحرص أن يجعل إبداعه امتدادا لا يعرف نهاية. شخصيا وكقارئة لشعر نزار قباني استطعت أن أجد شيئا مشتركا في قصائده لربما ذلك أسلوبه، لربما طريقته، لربما قاعدته. وأسمي القاعدة الخاصة بنزار قباني قاعدة "عشوائية المفردات" من قبيل مالحة ضفائر النساء، لجسمك عطر شديد الذكاء...، يعجبني عندما يضرب بالقواعد العلمية والفيزيائية والكونية والمنطق عرض الحائط. أذهل أمام وصفه وأقول فليذهب المنطق للجحيم. حقا أذهل كيف لكلمات كالعطر والذكاء أن يجتمعا في جملة واحدة من أجل معنى كهذا؟ كيف؟ لربما الكثير من الشعراء كتبوا شيئا كهذا من قبل لكن نزار جعل هذه الطريقة في الكتابة أسلوبه وقاعدته.


بعيدا عن الشعر، يحدث أحيانا أن يغني مطرب ما، فنان متمرس يجعل الجمهور يستمع بخشوع. يغني بصوت جميل وأداء أجمل ويكون كل شيء على ما يرام والدنيا بخير. إلا أن يخرج عن المقام لجزء من الثانية ثم يعود ليركبه مجددا كامتطاء فارس مغوار لجواد عربي. لاحظ عندها الآهات التي تطلق وهتاف الجمهور والقشعريرة التي تسري بسائر البدن. فحتى من لا يدركون جيدا ماهية المقامات والقواعد الغنائية يشعرون بتلك اللحظة بالضبط. لذا فأنا أسعى أن أكون تماما ذاك الجزء من الثانية الخارج عن المقام دون أي نشاز.

أنا أسعى أن أكون تماما ذاك الجزء من الثانية الخارج عن المقام دون أي نشاز.


وأخيرا، هويتي ليست باسمي وبنسبي ولا بموطني...، هويتي سأصنعها من خلال إبداعي. هذه رغبة أكبر وأسمى من هدف تحقيق الذات، هذه رغبة لكي أجدني، لكي أعنونني. فالهوية ليست فقط المعلومات التي تمنح لنا عند الولادة، الهوية تصنع، فاصنع هويتك.


هويتي ليست باسمي وبنسبي ولا بموطني...، هويتي سأصنعها من خلال إبداعي. هذه رغبة أكبر وأسمى من هدف تحقيق الذات، هذه رغبة لكي أجدني، لكي أعنونني. فالهوية ليست مجرد معلومات منحت لنا عند الولادة، الهوية تصنع، فاصنع هويتك.

مباركة الفقري




ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

كتابة جميلة، متأثرة باللغة المائية


للشاعر نزار قباني، اعتقد انك تسيرين
على طريق السهل الممتنع، التي تقود
إلى كتابة لغة أقرب ما تكون إلى قلب
القارئ.. نزار قباني ثلاثة مفاتيح لفهم

سخصيته : طفولته، نزقه، عاطفيته..
ارجو لك التقدم..

إقرأ المزيد من تدوينات مباركة الفقري_classikiya

تدوينات ذات صلة