لقد تجاوزنا الحديث عن الكتابة كونها وسيلة تواصل وتعبير. الكتابة أعمق من ذلك بكثير. قراءة ممتعة.


ها أنا للمرة الألف أجلس أمام أوراقي الفارغات التي سئمت بياضها والتي لا توحي بشيء كعين دون بؤبؤ، وكعروس بفستانها الأبيض ظلت تنتظر عريسها في ليلتها لكن لاحت خيوط الفجر ولازالت عذراء. هذه المرة سأنهض من مكتبي ومن فوق علوها ستنهض معي السماء، هذه المرة ستكون استثناء.

إنها حالة كل كاتب مقترف لجرم الكتابة بعدما كان ضحيتها. فكل مرة أقسم أن تكون محاولتي التالية في الكتابة استثناء عن باقي المرات، أكتشف أن الاستثناء في كتاباتي أصبح هو الشيء الثابت. وأكتشف أن الشيء الذي أبحث عنه حقا هو الاستقرار في الكتابة، إني أبحث عن طقس معتدل وهادئ خلال مرحلة الكتابة وليس حالات المد والجزر التي تتعاقب علي ولا تلك العواصف التي تعصف بي في كل مرة وفي كل محاولة. إنها حالة مزرية، حالة معقدة، تجعلني أتساءل هل أنا حقا بحاجة للكتابة؟ يكفي أنني أفهم جيدا ماهية أحاسيسي لماذا سأكتب ولمن؟ وإن كتبت من أين سأبدأ؟ ومن أي صفحة سأستهل حديثي؟ كلما حاولت التعبير عن هذه الأحاسيس المتضاربة التي أعيشها أخرج خاوية الوفاض لأن اللغة أصبحت لا تكفيني. وكلما تذمرت من حالتي هذه يخطر ببالي قول نزار قباني: "أنا الذي اخترعت الرسائل لست أعرف كيف أبتدئ الرسالة". لا نزار اخترع الرسالة ولا أنا أتممت رسالتي بيد أني ظننت للحظة أني قد اخترعت شيئا في محيطي الصغير، شيئا خاصا بي وصار يمثلني، لكني لا أعرف كيف أتممه لكي أستحقه. لقد كانت لحظة غباء.

في خضم صراعي هذا، أفكر أن آخذ استراحة وأن أعود إلى مسقط رأس أول كتاباتي، حين كانت الكتابة بالنسبة لي سوى حبة صداع تجعل الأصوات التي في رأسي تتلاشى. فكلما تروع ذهني من تخمة الأفكار والمشاعر المبهمة استفرغت على الورق. أخذتني الكتابة في رحلة طويلة وفجأة تركتني في منتصف الطريق، بالضبط حيث أنا الآن. حتى أني لم أستوعب لماذا تواجدت بتلك المحطة من الأساس؟ وبينما كنت أحاول استيعاب ما يجري انطلق بي القطار. وبالرغم من هذا الفصال الذي حدث بيننا لم يكن التخلي سهلا. بالعكس تماما، فرغبتي باستكمال الرحلة تستفزني لكني لا أعرف وجهتي التالية. مثلما لو تركك شخص مقرب منك فجأة، تحاول التواصل معه لكنه لم يترك لك أي عنوان ولا معلومة تمكنك من الوصول إليه.

رغم خصامنا، أصر دائما على أن أجتمع بها، أضرب معها موعدا، أجلس على طاولتي وأمامي أوراقي الفارغات، أنتظرها وأوراقي الفارغات، لكنها لا تأتي. فأنهض وأقسم أن المرة القادمة ستكون استثناء. ويستمر الأمر على هذه الحال. كلما يصلني إشعار منها، أنهض من مكاني طائرة لأطبع حروفه. أفرغ سطح مكتبي ولا أكثرت لتبعثر الأشياء من حولي، وأنا التي تكترث للسنتمترات التي تحول بين المزهرية وبين مركز الطاولة. أسحب الكرسي بقوة كمحقق متحمس لاستجواب متهم مل الانتظار في غرفة الاستجواب ولن يستطيع أن يماطل بعد. لعل أوراقي ملت من بياضها ولعل أقلامي تعبت من المماطلة. أعرف أني مخادعة قليلا، فالغاية تبرر الوسيلة. لكن خدعتي ما كانت الوسيلة بل كانت الغاية في حد ذاتها.

أي إشعار كان؟ إشعار الكتابة نعم، لكن ماذا سأكتب؟ ليس الأمر وكأنني لا أعرف ماذا أريد أن أكتب، فلو كانت الكتابة تقتصر على بعض من الجمل المتراصة جنبا لجنب والخالية من الأخطاء الإملائية لكنت أكتب بين كل عملية شهيق وزفير أقوم بها في اليوم. بيد أني أبحث عن شيء أقوى، عن مفردات أقوى، عن لغة تترجم الأنفاس والتعابير والحركات وتجاعيد الجبين واليد التي تضرب المكتب كلما استعصى عليها أن تكتب كلمة على طرف اللسان لكنها ليست الكلمة الأمثل. إن الأمر كرسالة وصلتك عندما تفتح هاتفك لا تجد سوى مربعات. الرسالة هنا، الفكرة هنا، لكن الهاتف لا يعرف تلك اللغة ولا أنا اعرف تلك اللغة.

إن الكتابة ورطتي، لا بل هي أكثر من أن تكون ورطة وإلا كنت عرفت كيف أخرج نفسي منها. أشعر كما لو أنها حشرتني في الزاوية. إن الكتابة حلت عليا ضيفة، استقبلتها ورحبت بها بحفاوة، أكرمتها وأطعمتها أوراقي وسقيتها حبري وألبستها مشاعري. تركتها في الصالة وهرولت إلى السطح، أخرجت مصطلحاتي التي كساها الغبار من خزائن النسيان ونفضتها جيدا ثم عرضتها لأشعة الشمس كي تزول منها رائحة الرطوبة وكي تكون جاهزة لأدفئها بها ليلا. أعود إليها لأجدها بدأت تتعود على المكان، فيبعث في إحساس من الألفة. إنها رفيقة أنيسة من النوع الذي يسمع ولا يتكلم، يترك لك مجالا فسيحا لتغوص في نفسك وتغوص معك. إنها من النوع الذي يسمعك ولا يصدر في حقك أي حكم. ما جعلني أود ان أكرمها أكثر وأرضيها أكثر حتى تضل راضية عني ولا أفقدها. أنهمك في طبخ حروفي وأطعمها أطباقا من أجود وأفخم العبارات والكلمات وأضع بهارات خاصة تتماشى مع أغلب الأذواق وأعصر ما نضج من أفكاري وأسقيها. لكن كلما أشبعتها زاد جوعي، وكلما سقيتها زاد ظمئي، وكلما أدفأتها بمشاعري لسعني البرد. لقد أصبحت سيدة المكان، وأصبحت أنا الضيفة. وتبدأ شيئا فشيئا تكشف عن جانبها الخفي، تكشف عن جروحك جميعها وتعريك أمام نفسك، ثم تتركك تتخبط وحدك، ومهما كتبت لا ترضيها ولا ترضي حتى نفسك. فكيف يمكن لشيء جميل كالكتابة أن يصبح بهذه الوحشية؟

إن عذابا كهذا لابد له من مقابل يجعلك تتخبط من أجله، و تطور نفسك وتروض لغتك. صحيح أن الكتابة فعل يمكن لأي شخص أن يقوم به، لكنها تتجاوز ذلك لتصبح طقسا مقدسا لا يمارسه إلا المؤمن، الصابر، الزاهد، المجاهد في سبيل الفوز بجنته. فالكتابة تعدنا أيضا بجنة، جنة الخلود. خلود من نوع خاص، لا الخلود الذي ينتظرنا جميعا، بل خلود في أذهان الفانين وقلوبهم، وخلود في الحياتين. كما أنها تقطع وعدا إلى من يقدم لغته ومشاعره كقربان لها وينذر أنامله إليها، بأنه لن يدفن في مقابر النسيان بل سيدفن بين رفوف المكتبات وأن رفاته سيتناثر بين صفحات الكتب، وأنه سيكون ضيفا مرحبا به عندما يطرق أبواب التاريخ، وأن اسمه سينتقل من مدرسة لأخرى حيث سينجب كتاب من بعده يحملون في كتاباتهم جيناته.

إنه السبب الأكثر منطقية الذي يجعلني أقف صامدة أمام مكرها وأمام جحيمها. كما أن من فتح بابه للكتابة لن يتمكن أبدا من طردها أو التخلص منها. لديها قدرة استفزازية عالية بأن تجعلك تشعر أنك فشلت أمامها فما يكون منك إلا أن تستمر في محاولة إثبات نفسك أمامها وأمام نفسك بالمقام الاول. لا أخجل من إقراري بهذا، لأني كما قلت الكتابة هي من بحثت عني لست من بحثت عنها. كما أن طبيعتنا كبشر تتطلب دائما وجود الحافز للاستمرار. والخلود هو الحافز الأقوى والأعظم بالنسبة لي. لما الكتابة؟ ولماذا أكتب؟ لأن الخلود هو أن تترك عن كيانك نسخة مكتوبة.


مباركة الفقري


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

تدوينة أكثر من رائعة

إقرأ المزيد من تدوينات مباركة الفقري_classikiya

تدوينات ذات صلة