لأن الأفكار تقود إلى سلوكات.. فإنه من المساعد أن نكتشف المفاهيم المغلوطة التي تستند عليها الكثير من العلاقات المشوهة فنزداد وعياً وقدرة على التغيير.

يترافق تغير المعتقدات حول الزواج والعلاقات بشكل عام مع تغير شكل الأسرة ونمط العلاقات، والأخير ملاحظ عبر التاريخ، ففي البداية كانت الأسرة (وكانت كبيرة مقارنة بالعائلة الحديثة) بهدف تلبية حاجات أساسية لبقاء الفرد مثل الأمان والغذاء وهذا يتحقق عندما تكون الأسرة جزءاً مادياً ومعنوياً من المجتمع بحيث يؤمن وجودها وتخدم مصلحته. ثم وبحثاً عن الحرية انتقلت لتكون أصغر وأكثر استقلالاً. وكما هو متوقع فإن المعتقدات والتوقعات والقيم حول الزواج قديماً تختلف عما هي عليه في الزواج الحديث في المدنية الحداثية.


تأتي المغالطات الفكرية حول الزواج والعلاقات إما نتيجة التجارب الشخصية غير المرفقة بوعي وتبصّر كاف، أو تكون آثاراً لنمط التعلق الذي كان سائداً في الطفولة، أو نتيجة لملاحظات جزئية لتجارب الآخرين إما واقعياً أو من خلال ما يتم نشره على وسائل التواصل الاجتماعي والتي لعبت دوراً مركزياً في ذلك.

وتأتي أهمية مناقشة المعتقدات بشكل عام وبالأخص المغالطات أنه يتبعها مستوى من الرضا الزواجي وتفسير لجودة العلاقة وسلوكٌ يشكل واقع العلاقات الزوجية والذي يكون مآله بالغالب تفككاً مجتمعياً وهشاشةً نفسية تعيق تصحيح المغالطات التي لعبت دوراً أساسياً في البداية. واستثناء ذلك بالوعي أوما يسمى الاستبصار الذاتي (insight) والذي يسمح بالتأمل الداخلي والخارجي للأفكار والمشاعر والأحداث والمؤثرات السابقة والحالية لاستخراج المساعد منها والتعامل مع المعيق . ونحن هنا في محاولة للإسهام في تشكيل جزء من هذا الاستبصار لتصحيح بعض المغالطات والتي لها عظيم الأثر على السلوكات والعلاقات.


تتسم المغالطات بشكل عام بالتفكير الجزئي أو القطبي، مثل الاعتقاد بأن الزواج هو البوابة إلى السعادة الدائمة وتحقيق الأحلام والطموحات في مقابل فكرة أن الزواج أتعس تجربة وجحيم لا يطاق وأنه نهاية الإنجاز ومقبرة الطموح، أو أن الحبّ وحده كفيل بإنجاح الزواج. ومن الملاحظ أن الحركات الاجتماعية والثقافة السائدة لها أثر كبير في ترسيخ مفاهيم كهذه ومغالطات قد تترسخ أحياناً في اللاوعي.


التمركز حول السعادة:


في الحياة الحديثة غدا تحقيق اللذة والسعادة الشخصية هو المطلب الأساسي للسعي الإنساني، وهو حقّ شخصي غير قابل للنقاش. وانعكاس ذلك على مجال العلاقات جلي وواضح بحيث جعل من البحث عن السعادة أولوية مركزية تفوق حبنا للشخص الآخر. والعديد من القرارات التي نتخذها يومياً نقررها وكأننا ننظر من منظار بسيط مخلّ يتمثل في سؤال أيهم سيجعلنا أكثر سعادة، وبهذا فإن قرار الزواج سيتمحور كذلك حول سعادتنا في المقام الأول. والإعلام بمسلسلاته وأفلامه وأغانيه يلعب دوراً في اعتقادنا بأن الزواج والحب هو البوابة العظيمة للسعادة. فنحن نتاج ثقافة تروج للأمل في علاقة لا تنتهي فيها السعادة، مما يجعل العلاقة الواقعية تنتهي بإحباط مرير، وبالتالي نستمر بالبحث عن الشريك الذي يمثل التوأم الروحي (soulmate) لنا. ووفقًا لدراسة حديثة ، فإن العديد من غير المتزوجين يعتقدون أنهم سيجدون يومًا ما توأم روحهم - وهو المثل الأعلى الذي ترسخه هوليوود إلى حد كبير - وتظهر نفس الدراسة أن أولئك الذين يتوقعون ذلك ويرفقونه بخيالات السعادة الدائمة هم أكثر عرضة للطلاق.

وفي الحقيقة فإن الشعور بالسعادة بكونه أحد تموجات الحياة الطبيعية من بين مختلف المشاعر هو نتيجة ثانوية لعلاقة سليمة ناجحة، لكن القيمة المضخمة والمفهوم المغلوط لها تجعلنا عرضة لفقد أحد أهم أهداف العلاقة.


التمركز حول تحقيق الذات والطموح:


كما أن هناك خللاً في مفهوم السعادة وأولوية السعي لها فإن هناك خللاً في مفهوم تحقيق الذات وترتيبه بين الأولويات. فتقييم الزواج والنظر إليه صار حسب تحقيق الإشباع العاطفي والجنسي للفرد أكثر من كونه المصلحة الأوسع للبناء المجتمعي. وتمحور هدف العلاقة حول السعي إلى التطور الشخصي وتقييم الرضا فيها على أساس تحقق ذلك، أكثر من هدف بناء أسرة مستقرة، وهذا الانتقال من التمركز حول العلاقة إلى التمركز حول الفرد يمكننا تسميته الزواج الفردي أوتفكيك مؤسسة الزواج de-institutionalization of marriage. وهذا لا يقودنا إلى التسفيه من الطموح والسعي له وأهمية دعم كل من الشريكين للآخر في النمو والازدهار.

وعندما نمضي في المعرفة التاريخية نرى كيف أن الحركات السياسية والاجتماعية لها تأثير متبادل على بعضها. فمثلاً الليبرالية بدأت كفلسفة سياسية فأنجبت الليبرالية الاجتماعية والتي تركز على مبدأ الحرية الفردية والتي بدورها أثرت على خصائص وأهداف التفاعلات بين الشخصية وأهمها الأسرة والزواج. فمثلا في عصر التنوير في القرن الثامن عشر بعد أن كان هناك قبول عام لفكرة أن الهدف من الحياة الشخصية للأفراد هو تحمل المسؤولية الاجتماعية وخدمة المصلحة العامة صارت الفردانية والرضا الذاتي وتحقيق الذات مفاهيم أساسية يعرف بها الفرد حياته حسب درجة تحققها. فصارت معايير العلاقة الحميمية المزيد من الفردية الشخصية والقليل من المسؤولية تجاه من تلزمنا علاقة معهم.


مركزية الحب:


صار الحب هو أول وأبرز ما يتمثل في الأذهان عند الحديث عن علاقة ناحجة. ومع أهمية الحب لكن هناك ثلاث ركائز أساسية لدوام العلاقة، هي التواصل والاحترام والثقة. فالكثير من الردات الفعل الكيميائية العصبية تلعب دوراً كبيراً في مشاعر الحب والسعادة الغامرة في السنوات الأولى من الزواج ، وهو ما يسمى بيولوجيا الافتتان (infatuation)، والتي لا تستمر بالعادة أكثر من 24 شهراً. وبالتالي فالحب وحده لا يكفي لاستمرار زواج ناجح. فنجاح الزواج يحتاج جهداً ووعياً ومهارات شخصية واجتماعية، فكما قال تولستوي "ما يهم بتكوين زواج سعيد ناجح، ليس مدى التكافؤ والتشابه، بقدر ما هو كيفية التعامل مع عدم التشابه والتكافؤ" وبالتالي فإن السعي لزواج ناجح هو ليس فقط أن نسعى لشريك يشبهنا ونبادله الحب، بل هو أيضاً أن نتعلم كيف نتواصل بفاعلية في الحياة اليومية ونستقبل ونلبي حاجات الشريك ونعبر عن حاجاتنا أيضاً فضلاً عن كيف نتعامل مع الخلافات والاختلافات. حتى أن أبسط مكونات التواصل تحتاج إلى تعلم ووعي، فمثلاً قد يكون التواصل الغير لفظي بما يشمل من إرسال رسائل غير مباشرة عرضة لسوء تفاهم كبير إن لم يتم تعلم إرسال المؤشرات والتعابير بشكل واضح وكذلك تعلم قراءتها وفهمها من الطرف الآخر، وهذا بدوره ينعكس على جودة العلاقة والتي تعود تؤثر على كفاءة التواصل أيضاً. فهي دائرة من التأثر بين جودة التواصل وبين رضا الشريكين عن العلاقة ومدى نجاحها وجودتها، فإن لم يتم بدء هذه الدائرة بوعي وجهد في التعلم فستؤول إلى الجمود وعدم الرضا.



مركزية الجهد:


من الملاحظ أننا -وبتأثير من ثقافتنا- اعتدنا على الحصول على المتعة بشكل سريع ودون جهد يذكر ، ولذا كان الزواج أهم ضحايا ثقافة الاستعجال وتقليص الجهد. وبالتالي فالكثير يعتقد أن جماليات الزواج والعلاقات هي نوع من الاستحقاق الشخصي المؤكد وأنهم سيحصلون على ما يريدون من الزواج بشكل مجاني وعلى الفور. لكن هذا التوقع لم يخدم الحب والزواج بقدر ما جعله ميثاقاً خفيفاً هشاً يسهل الانفكاك منه. والنفس تميل إلى تقليص الطاقة التي تحتاجه لأي عمل وذلك من باب تعظيم اللذة والمكسب والإقلال من المخسر والألم، ونرى أن إلقاء اللوم على الشريك الآخر أقل إيلاماً للنفس وتسبباً بالقلق وتطلباً للتغيير من لوم النفس أو فحص ما فيها من أخطاء وعيوب. فلأننا نعتقد أننا وصلنا إلى "الحب" النهائي فإن أي خلاف يضع هذا الحب على المحكّ.



مقابل كل ما ذُكر من تمركز حول السعادة وتمركز حول الذات وتمركز حول الحب ، من المساعد أن ننظر إلى الزواج كعلاقة نبذل فيها الجهد لنسمح لها بأن تصقل شخصياتنا وتنمّينا، فيتحول تركيزنا من التحقيق الشخصي للذات إلى التنمية المتبادلة وتمكين بعضنا البعض، ومن التمحور حول السعادة إلى التمحور حول التكامل والاستقرار والرضا. فمن الطبيعة العامة للزواج ولأي علاقة أنه كلما قدمت له وبذلت لأجله، فإن المقابل سيكون بقدر ذلك.






المراجع:


1- The Marriage-go-round: The State of Marriage and the Family in America Today

2- Love is not all you need in a marriage (https://www.theguardian.com/lifeandstyle/2013/apr/20/love-not-all-need-marriage)

3- Marriage Rebranded: Modern Misconceptions & the Unnatural Art of Loving Another Person, Tyler Ward, 2014.

4- The Importance of Love as a Basis of Marriage: Revisiting Kephart (1967). Susan Sprecher, Elaine Hatfield. 2015

5- The Changing Landscape of Love and Marriage. Hull, K. E., Meier, A., & Ortyl, T. (2010).

6- The Psychology of Family, Saberi Roy

7- Intimate relationships, Thomas N. Bradbury and Benjamin R. Karney, 2014.







إقرأ المزيد من تدوينات مودة العقاد

تدوينات ذات صلة