قد تكون تجربة الأمومة من الفرص التي تقدمها لنا الحياة مع خليط من المشاعر وصراع في الأدوار لنفهم ذواتنا ونرتب أولوياتنا ونتصالح مع منهجنا الذي اخترناه


كيف تؤثر الأمومة على الصحة النفسية؟ وكيف يؤثر تحديد المرجعية على تجربة الأمومة؟ وما أثر نضج مرحلة تشكيل الهوية والانتماء؟ كيف من الممكن أن تكون أثرت الحداثة على الأمومة فحصل ما يسمى "بعلمنة الأمومة"؟



التوافق والتنافر المعرفي


أحد مقومات الصحة النفسية هو ما يسمى بالتوافق المعرفي أي أن تكون فكرة الفرد وسلوكه متوافقان وبالمقابل أحد ما ينخر بالصحة النفسية هو التنافر المعرفي. فإذا كان لدى شخص معين فكرة معينة لكن سلوكه لم يكن متوافقاً مع هذه الفكرة فإن اضطراباً واضحاً سينعكس على أفكاره ومشاعره وسلوكات أخرى ظاهرة في حياته. فقد يقل لديه الرضا على سبيل المثال ويشكل صورة غير مستقرة عن نفسه ويسلك بعض السلوكيات المضطربة. هذا ما حصل تماماً مع الأم قبل دخولها تاريخياً إلى سوق العمل الوظيفي. حيث كانت الأدوار تعطي أولوية للأسرة وتماسكها. ثم بدأ الضخ الإعلامي والفكري والذي ينادي للسباق الاقتصادي وتمكين المرأة وتحقيق الذات ومحورية النجاح الخارجي والإنتاج في المجال الوظيفي. في هذه الأثناء كانت الأم ماتزال محتفظة بدورها في الأسرة بشكل غالب. لكن وبسبب انتشار نوعية الخطاب السابق ذكره وتسلله إلى أفكار العديد من الأمهات عبر الإعلام بشكل خاص والجمعيات الحقوقية والشعارات الحماسية، فإن التنافر المعرفي صار منتشراً بكثرة لدى الكثير من النساء. أي أن فكرتهن عن نفسهن ودورهن تعارضت مع ما كنّ يسلكنه من سلوكيات. لذلك عندما تدفقت جموع النساء لدخول سوق العمل الرأسمالي المادي فإنه وبناء عليه سيتشكل لديها توافق معرفي وسلوكي وبالتالي فإن بعض جوانب الصحة النفسية ستكون لديهن أفضلً حالاً. وهذه محاولة لتفسير نتائج بعض الأبحاث التي تقارن بين الصحة النفسية للمرأة العاملة والمرأة المستقرة في بيتها. ومن الممكن الإشارة إلى أن الصحة النفسية بمفهومها هذا من الممكن أن تكون قصيرة المدى وليس بالضرورة أن تكون الصحة النفسية الفردية تعني الصحة النفسية للمجتمع.

وبالتالي الصحة النفسية يؤثر فيها الكثير من المتغيرات، فهي ترتبط بما لدى الإنسان من أفكار وبمدى توافق سلوكه مع هذه الأفكار، وترتبط بمدى استقرار هويته الذاتيه وتحديد غايته وقيمه ومنهجه. وهنا تظهر أهمية الوعي بالمدخلات الفكرية التي يستقبلها الفرد من غير تمحيص، وبترتيب الأولويات الذي تسير عليه حياته، والتي تلعب دوراً في الصحة النفسية الفردية.


المرجعية:


والحديث عن المدخلات المعرفية والوعي بها وتمحيصها يقودنا إلى أهمية تحديد المرجعية التي يتخذها الإنسان في معالجة المدخلات. فأحد أوجه العلمنة بمفهوم عبد الوهاب المسيري هي غياب أي مرجعية عليا متجاوزة والاقتصار على مرجعية مادية كامنة. وهذا الاقتصار في المرجعيات تغلغل إلى كثير من جوانب الحياة كالأسرة، فصار كل فرد مرجعية لذاته. وهنا تحديداً يتجلى معنى الآية "واتبع هواه وكان أمره فرطاً". فبدأ الموضوع بالتمركز حول الذات والبحث عنها ثم آل إلى التمركز حول الموضوع، فظهر التمركز حول العمل والتمركز حول الموضة واللياقة والطعام. ففي رحلة البحث عن الذات والسعي للتمركز حولها، فُقدت الذات أكثر وتشتت الهوية والقيم. فالتمركز حول الذات والبحث عنها يعكس ضياع الهدف وتشتت البوصلة. وبالمقابل فإن تحديد الغاية يتبعه تلقائياً تحقيق الذات، وثباتها واستقرارها يكون انعكاساً لسمو الغاية وتجاوزها عن العالم المادي القاصر، وكما هي الآية الكريمة "ومن يؤمن بالله يهد قلبه". وبناء على ذلك، في مرحلة الأمومة التي تتميز بكثر الأدوار وربما بالصراع النفسي للأم بين أدوارها السابقة والحالية وأدوارها الخارجية والداخلية، فإن الرضا النفسي للأم بدورها المهم وتلبيتها لما تطلبه المرحلة يعتمد على تحديدها للمرجعية التي تتبعها وبالتالي من يحدد لها الأولوبات في مرحلتها الحالية.


الهوية والانتماء:


تشكيل الهوية وتحقيق الانتماء يكونان التحدي الأساسي في المرحلة الخامسة من التطور النفس اجتماع عند عالم النفس إريك إريكسون والتي تتمثل في عمر المراهقة وأول الشباب. وهناك أمران يسهّلان حل وتجاوز هذا التحدي وهما وجود خط عام وواضح للثقافة الغالبة ونموذج جيد ومتناسق لأدوار البالغين. وإسقاطاً على الواقع فإن العامل الأول مشوش والثاني مغيب أو مشوه. فهناك تشويش واضح للثقافة الغالبة فلم يعد هناك ثقاقة غالبة بالأصل بل ثقافات متعددة. وأما مفهوم ودور النموذج فقد تم تشويهه من خلال ما تقوم به وسائل التواصل الاجتماعي من تسطيح للحياة الإنسانية وجوانبها المركبة. وهذا الإسقاط الواقعي يجعل من الأسهل فهم إشكالية الهوية من خلال الوعي بالعوامل المساعدة وبالتالي مفاتيح قدرة تجاوز هذا التحدي. ومن هنا تظهر أهمية وجود استراحات وتوقفات يتخذها الفرد للتأمل، بحيث تسمح بإيجاد دور مُرضي وهوية متكاملة للفرد تحوي ثقافته وغاياته وقيمه وحتى علة وجوده ومنهجه. وبالتالي يتبين مدى أهمية أن تخصص الأم وقتاً لنفسها تتفكر فيه بما سبق ذكره، لتتجنب صراع الأدوار النفسي والتقاذف بين الدعوات الإعلامية والثقافية التي تشوش عليها تشكُّل هويتها والانتماء لدورها.


مفهوم النجاح ومعاييره:


ومن الحديث عن أهمية التفكر والتأمل بما جرى عليه الناس من مناهج ومعايير، فالكثير منا يسعى راكضاً إلى النجاح لكن القليل منا من يتأمل بمعنى النجاح بالنسبة له. وبالتالي تختلط معايير النجاح وأولوياته، وتكون نظرة الآخرين للفرد محورية يبني عليها الفرد صورته عن نفسه ورضاه عنها. ومتى ما كانت أولوية الفرد وغاياته وصورته عن نفسه مرتبطة بمعايير الآخرين مثلاً أو بمعيار مادي فإنها ستتسم بالسيولة والتغير تبعاً لصفات ما تعتمد عليه وهي التغير والتبدل. فالإشكال في مفهوم النجاح الحداثي أنه اقتصر على الإنتاج الفردي، ومعايير تقييم النجاح تمركزت حول مفهوم الإنتاجية والعمل الوظيفي. فمن المفهوم أن الجميع يرغب بالمشاركة المجتمعية وأن يكون له دور فاعل في مجتمعه، لكن الحداثة ضيقت أفق المشاركة وحصرتها في أشكال محددة. وبناء على ذلك، فإن تخبط الأم بين أدوارها أو شعورها بالدونية لأنه لم تلحق السباق الحداثي المحموم نحو النجاح بالمفهوم السائد، يمكن فهمه بإرجاعه إلى النظرة الأحادية لمفهوم النجاح واعتماد صورة الأم لنفسها على مقاييس الآخرين.



في الختام، ما يجعل من الحياة النفسية للأم وللمجتمع أكثر استقراراً وتماسكاً، هو وضوح الهوية والمرجعية الثابتة المتجاوزة للعالم المادي الحداثي. ومما يعين على تكوين الهوية الحرص على التفكر والتأمل وتمحيص المدخلات المعرفية الواردة.





ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

وضعت يدك على الجرح، بارك الله فيك

مقالة موفقة، شكرًا لكِ.

إقرأ المزيد من تدوينات مودة العقاد

تدوينات ذات صلة