تعافت من السرطان، ولكن صراعها مع القلق استمر، وكان الخوف من عودة المرض يبعثر قلبها، حتى كانت اللحظة الفارقة.



ما هو أشد ألما وغمًا من العملية والعلاج كان هو تحكم القلق في نفسها، الخوف من الألم كان أشد من الألم، والخوف من فقدان الجاذبية وانهيار حياتها الزوجية كان يضفي على الكلمات والأفعال، بل والنظرات أبعادا وهمية جعلتها متحسسة لكل شيء.. والخوف من الموت كان هو الشبح الذي خيّم على روحها، وجعلها تموت في الموت ألف مرة.


أشد مخاوفها كانت على صغارها، أطفالها اللذين لا يزالون يتعلقون بثوبها، وابنتها التي تطرق باب المراهقة، تفكر فيهم مع كل ضحكة، مع كل أزمة، في كل حين تخشى أن يفقدوها أو تفقدهم..

"كيف سيعيشون من بعدي؟".. سؤال حفر تكراره في قلبها أخاديد للألم.. وخيالها لا يتوقف في نوم ولا يقظة.

هل سيظل المحبون قريبين من أولادي؟..

هل ستتفقد صديقاتي ابنتي؟..

هل سيبقى زوجي حريصًا على أولادنا حانيا عطوفا؟


وماذا لو جاءت أخرى لتأخذ مكاني؟، هل ستتحملهم وتحبهم وتكون لهم كالأم؟، أم ستغير قلب زوجي عليهم وتحطمهم؟.. هل أختارها بنفسي من الآن وأزوج زوجي؟!!

لم تشعر بدعم زوجها لها وتأكيداته على أنه يحبها الآن أكثر من أي وقت مضى، كانت في كل مرة ينظر إليها أو تجمعهما لحظة حميمة تهدر سعادتها بأفكار التشكك في نفسها.. في جدارتها الآن أن تكون زوجة، في حبه لها، في هواجس الخيانة والتعاسة.


وفي ليلة باكية.. أخذ زوجها الأطفال وتركها، لم يعد في البيت موطأ قدم لراحة وهدوء، فقد أفرغت كل قلقها وهمها غضبًا، قالت فأوجعت، بنت جبالًا من الاتهامات، أعماها خوفها عليهم جميعا أن تدرك حاجتهم وحبهم لها الآن قبل غدًا.


فوق سجادتها في غرفتها المظلمة ومن داخل قلبها المسجون بكت.. وأخيرا تفجرت دموعها، وناجته بقلبها:

نعم يا إلهي أنا حيرى.

نعم يا إلهي أنا محزونة..

أشعر أنك قضيت علي وأنا حيّة.

يا إلهي لا أريد أن أكون ساخطة فارفع السخط من قلبي.

يا إلهي هب لي نفسي..

هب لي عمري.. هب لي زوجي وأولادي.

يا إلهي انزع الخوف من قلبي.. واحفظني.

يا إلهي أنت السلام.. أسألك سلاما على كل خلية في جسدي، على كل هاجس في عقلي، على كل حزن لفقد، وفزع من ألم..

يا إلهي.. نسيت أن أحمدك أن شفيتني.. اغفر لي فقد نسيت أن أحمدك على الشفاء خوفا من عودة المرض، فاحمني من عودته، وحصن جسدي منه، وألهمني الشكر.

اللهم كما نجيتني من السرطان فنجني من الخوف منه.


وفي الظلام أبصرت..

لمست جسدها.. احتوت نفسها بذراعيها، وبكت.. "أنا حيّة".. قالت بسعادة وكأنها تدرك لأول مرة منذ عامين أنها على قيد الحياة!

"أنا بين أولادي.. مرّ عامان كنت معهما أفكر دومًا في غيابي"

"أنا حبيبة زوجي.. أنا زوجته وأم أولاده وحب حياته.. مازلت أنا هنا، بكل ما آتاني ربي".

كلنا سنموت.. وكثيرا ما يموت الصحيح قبل المريض، الكل يمرض والله يعافي.. قد يعاودني السرطان.. وقد يُصاب به أي إنسان وهو الآن مطمئن يعيش حياته بكل ما فيها، فلماذا لا أتعامل مثله؟!

كلنا.. كل البشر.. ما نحن إلا هذه اللحظة، إننا الآن..

ما مضى فات والمؤمل غيب*** ولك الساعة التي أنت فيها

عندما عاد زوجها والأولاد كانت متزينة مبتسمة، كان البيت معطرًا وتتردد في جنباته آيات القرآن الكريم، احتضنتهم وكأنها كانت مسافرة بعيدا وطال شوقها إليهم..

كانت هذه اللحظة الفارقة في حياتها، فقد تعلمت أن تحيا كما لم تحيا من قبل، فلا تأجيل ولا غوص في المشاعر السلبية.. أصبحت أنشط في الخير، أسرع إلى الطاعات، مقتنصة للسعادة، متأملة لتفاصيل النعم ولذة العافية في ثنايا كل شيء.. وكلما حاول اليأس والفزع أن يطرقا قلبها كانت تردد كلمة واحدة: "الآن".. ومن وراء ذلك عافية الله ورحمته.

مي عباس

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات مي عباس

تدوينات ذات صلة