"وما نحن إلا مجرد حروف وكلمات وجمل في كتاب القدر, وقد نكون في صفحة واحدة أو فصول مختلفة ولكن يعبر عنا عنوان واحد"


عندما أقرأ كتابا سواء كان موضوعه علميا أو أدبيا أو سياسيا وسواء كان الكاتب مغمورا أو خبيرا، أجد نفسي مبهورا بحروف وكلمات وسطور هذا الكتاب الذي استطاع العقل البشري للكاتب أن ينقل للقارئ أفكاره وبداخلها الصوت والصورة والألوان، فيشعر القارئ بالحياة تجري في الحروف والكلمات والجمل والسطور.

فمن خلال الكلمة يستطيع القارئ أن يري الهضاب والمرتفعات والسهول والأنهار والبحار، ويستطيع أن يسمع خرير الماء، وشدو البلابل وصهيل الجياد وصوت الخطيب. ويستطيع القارئ أن يميز بين صوت الرجال والنساء ولو في معركة ضارية. ومن خلال الحروف والكلمات، يستطيع الكاتب أن يصف لقاءا عاطفيا برومانسية حالمة، وأن ينقلك إلي معركة بالألفاظ النابية. ويستطيع أن ينقل القارئ من موضع قدميه إلي بلاد لم تطأها قدميه وكأنه هناك.

تلك هي وظيفة الحروف التي لا يزيد عددها في العربية عن ٢٨ حرفا، ولكن يستطيع الكاتب بالتبادل والتوافق أن ينسج منها كلمات وجمل تحوي في رحمها المعاني بالصورة والصوت التي أراد أن يراها ويسمعها القارئ لتطبع في نفسه رسائل بعينها قد تغير من فكره أو من مزاجه أو من إحساسه. وقد تصل ذروة تأثير كلمات الكاتب على القارئ حينما ينسجها ببراعة، ليجعل دموع قارئهـا تنسال علي وجنتيه وكأن الكاتب حقن في حروف كلماته قنابل مسيلة لدموع القلوب.

ولأني أري حروف وكلمات وجمل وسطور أي كتاب بهذا الصورة والروعة، حيث تلعب كل كلمة بل كل حرف في الكلمة دورا دقيقا يؤثر في المعني العام والخاص لرسالة الكاتب، فإني أشبه هذه الحياة التي نعيشها بكتاب والكاتب هو القدر، وما نحن إلا حروف أو كلمات أو جمل أو سطور هذا الكتاب. ومع أن عنوان الكتاب لا يمثل في غالب الأحوال إلا عدة كلمات وقد يكون كلمة واحدة، إلا أنه يتصدر الكتاب ليقرأه كل قارئ سواء قرأه أم لم يقرأه. ولذلك يمثل العنوان، رغم قلة عدد حروفه وكلماته، أهم عناصر الكتاب فهو الذي يخطف العيون والأبصار والأفئدة. وهكذا بعض الناس فينا، هي العنوان في هذه الحياة، حتى ولو كانت خبرتها قليلة، فقد اختارها القدر أن تتصدر المشهد وتصبح عنوانا للحياة.

وكذلك الحروف والتي تمثل البنية التحتية، والتي رغم أنها تمثل أصغر وحدة في نسيج الكلمات إلا أن القارئ لا يقف أمامها كثيرا بل لا يبالي بها على الإطلاق، فهي بالنسبة له مجرد نسيج كلمة على الأكثر. وهكذا الكثير منا، فرغم دوره المحوري في بقاء هذا العالم على أقدامه، إلا أن أحدا لا يأبه به ولا يشعر به ولا يهتم به ولا يقف عنده. ورغم ذلك لا يشتكي هؤلاء الناس بل يستمرون في أعمالهم والقيام بدورهم كما شاء القدر لهم ، تماما كما تفعل حروف الكلمات التي لا تعترض علي دورها بين أنامل الكاتب في نسج الكلمات لتتوالد الجمل والسطور بمعانيها العالية. وأستطيع القول أن من يقومون بدور الحروف يمثلون شريحة العمال في مجتمعنا بكل طبقاته.

وكما الكلمات في الكتاب والتي تمثل وحدة بناء الجملة حيث ترتقي في مكانتها في درجة أعلي من درجة الحروف لأنها هي التي تمثل روح المعاني والصور التي تعبر عنها الجمل ، فكذلك الكثير منا هو كالكلمة في رواية وكتاب الحياة بالنسبة للآخرين ، فهو الذي يحمل علي أكتافه جزءا من الهموم والأفراح. فمن يقوم منا بدور الكلمة يمثل شريحة كبيرة في المجتمع وان كانت أقل عددا من شريحة من يمثلون الحروف ولكن أعلي درجة منهم. فأستطيع القول أن من يقومون بدور الكلمة يمثلون شريحة المهنيون وصغار الموظفين في مجتمعنا بكل طبقاته.

وهكذا نرتقي في الدرجة بين شرائح المجتمع من الحرف الي الكلمة إلي الجملة ثم الباراجراف ثم الفصل الكامل، وهكذا إلي أن ينتهي كتاب الحياة الذي كتبه القدر وحدد لكل منا دوره الذي لا خيار من أداءه بنجاح وإتقان وتعاون مع باقي الأدوار حتي يخرج الكتاب بصورة قيمة وراقية ويعطي رسالته التي كتبها القدر لمصلحة الجميع بغض النظر عن دور كل منا.

وهكذا نري أننا ليس إلا حروف وكلمات وجمل في كتاب القدر ولكن كلنا في صفحة واحدة وكتاب واحد ولغرض واحد. فإذا اختل دور الحرف، اختلت الكلمة والجملة والمعني وأصبح الكتاب معيوبا. فمهما كان دورنا في الحياة، يجب ألا نستهين به ولو كنا نري أنفسنا في درجة أعلي وأرقي مما رسمها لنا القدر. فأن تكون حرفا راضيا عاملا مخلصا، لهو خير من كلمة أو جملة اغترت واختالت بنفسها وسط الحروف والكلمات والجمل فأصبحت لا ترضي لنفسها إلا أن تكون عنوانا علي صدر كتاب الحياة.

فكون أحد منا مجرد حرف لهو شرف للكلمات، وكون أحد منا كلمة لهو شرف للجمل والعبارات.

د. محمد لبيب سالم

أستاذ علم المناعة كلية العلوم جامعة طنطا

وكاتب وروائي



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات د. محمد لبيب سالم أستاذ جامعي واديب

تدوينات ذات صلة