نموذج عربي أردني للطموح والنشاط والصحة والحياة. مقالة سيرة غيرية تتحدث عن طبيب الأسنان الشهير الدكتور عبدالفتّاح البستاني .
يمتهن الطب وفي جعبته ألف حكاية
بقلم : ليلى الرفاعي
من أحد جبال عمَّان العتيقة المطلة على ماضٍ عريق، المكان البهي الذي اتخذ منه السياسيين والنخبة مكاناً لهم بعد أن أُعلنت عمَّان عاصمة لإمارة شرق الأردن، وبالتحديد من الدوار الثاني، الحي الأرستقراطي الهادئ، الذي اتسم سكانه لعقود عديدة بالطبقة المخملية الراقية، فشيدوا فيه المنازل والفلل المنمقة بطراز معماري عماني جميل، والتي لا تزال حتى اليوم أطلالاً تراثية عريقة لم تحركها الظروف أو الأزمنة بالرغم من الامتداد العمراني الجديد الذي طاول السحاب.
هنا، وعلى مقربة من الركن الذي يحيط بالدوار الثاني، وفي ذلك المبنى القديم بعمره، والثري بتاريخه، دار عتيقة لطب الأسنان، تحمل يافطتها اسم فارس، وبطل من أبطال الفروسية، ممن حفروا اسماً لهم في الصخر لن ينساه التاريخ، يمتهن الطب، وفي جعبته ألف حكاية.
ولد الدكتور عبد الفتاح صبحي البستاني في عمَّان عام 1937، تفتحت زنابق الشباب فيه باكراً، وتلونت سنوات عمره بسنابل الشمس الفتية، فما أن اشتد عوده حتى كان قد احترف عدة رياضات، ككرة السلة، والسكواش، والتنس، والسباحة والغطس، والتزلج على الماء، والفروسية بامتياز، أكسبته المرونة والقوة البدنية، وأخرى روحية بَدتْ في رقي معاملته ونضوج فكره، وسعة صدره، وسر علاقاته وتنوعها.
د. البستاني مستشار جراحة الفم واللثة والأسنان، درس طب الأسنان وأمتهنها باحتراف، تخرج من دمشق بدرجة دكتور في جراحة الأسنان بمرتبة الشرف عام 1960، ثم تابع دراسته بجراحة الفم والفكين من جامعة لندن عام 1964، وهو زميل جّراحي الفم والفكين البريطانية عام 1967، وزميل كلية أطباء الأسنان العالمية الأمريكية عام 1980، وهو ممثل الأردن في الاتحاد الدولي لأطباء الأسنان/ لندن منذ عام 1979 إلى عام 2005، وهو المحرر والكاتب والباحث لعدد ضخم من المقالات والدراسات الصحية التي تتخصص بصحة الفم واللثة والأسنان والأمراض المرتبطة بها في العديد من المجلاّت والصحف الصحية والاجتماعية، وهو المنظم، والمنسق والمحاضر لعدد لا يحصى من المؤتمرات والندوات العلمية على المستويين العربي والعالمي.
جمع في عيادته عَبق التاريخ حيناً والطب حيناً آخر، فلا يمل يُحدثكَ عن أثمن هدية قُدمتْ له وهي كتاب لأستاذه البروفيسور البريطاني (رومان رو) عقب تخرجه بامتياز من جامعه لندن، ومن بين كتبه الطبيّة تجده يحتفظ بدعوات لمعارض فنيّة يعود تاريخها لعقدين ماضيين أو يزيد.
طَبَعَتْ المدارس الانطباعية في الرسم الزيتي على حياته أيقونة الجمال الروحي، حتى تمكنت منه فالتحق بإحدى مدارسها في باريس متعلماً، شغِفاً، وممارساً لما يهوى، فبَدَت تتشكل في ذوقه المنفرد في اختيار لوحاته وتميّزها تارة تجريدي وأخرى تشكيلي بألوان تشع إشراقِ وسناءِ وأمل.
ليضم بعد رحلات سفر عديدة إلى الشرق الأقصى جاليريِ كبيرِ ملحقِ بعيادته، يضم اللوحات الانطباعية التي رُسِمت على أيدي أعرق فنانيها أمثال :اسبينس وباجى وكروسبي وإمي لوبيس وغيرهم.
ويرى البستاني لذة شديدة في عرض لوحاته على أصدقائه وأحبائه الذين يتساءلون دائماً باندهاش جميل عن سر العلاقة بين أنامل طبيب يحترف الفن ويتذوقه وبين مهنته الطبيّة البعيدة عن السحر والجمال.. فيجيب بأن مهنة الطب كغيرها من المهن علم بالدراسة والمتابعة وفن بالممارسة والتطبيق.
د. البستاني هو أيضاً أحد الرواد والمؤسسين للفروسية من الرعيل الأول في الأردن، وهو عضو ومؤسس ونائب رئيس نادي الفروسية الملكي لعشر سنوات تقريباً، الذي دعا إلى تأسيسه سيادة المغفور له الشريف ناصر بن جميل عام 1966، وهو عضو اتحاد الفروسية وقفز الحواجز البريطانية، وقد اُشتهر البستاني كفارس على حصانه "الصاوي" وقفز الحواجز ومبارٍ فذ لعدد من السنوات. كما حاضر، وكتب العديد من المقالات والأبحاث التي تتحدث عن الخيول العربية الأصيلة : كصفاتها، وأنسابها، وطبائعها، وأثرها في الشعر والأدب والتراث العربي. وهو مصَّور بارع في التقاط الصور النادرة للخيول العربية في الإستطبلات الملكية في الحُّمر برعاية سمو الأميرة عالية بنت الحسين، حتى تُوّج مؤخراً عضواً في رابطة اللاعبين الدوليين برئاسة سمو الأميرة هيا بنت الحسين.
وهو عضو مؤسس لعدد كبير من الأندية الرياضية العريقة في الأردن منذ مطلع الثمانينات حتى وقت ليس ببعيد، ورئيس لعدد من البعثات والفرق الرياضية في عدد من الأقطار العربية. ولا يزال يمارس رياضة التنس الأرضي في اوقات فراغه بحب وشغف لا يوصف.
لقد استطاع البستاني بإصراره امتطاء جواد أفكاره، وتجاوز حواجز الطب بأميال، فهو أيضاً عضو ومؤسس لعدد من جمعيات الصداقة والمنتديات الثقافية والصحية وله اهتمام بالغ بالشعر العربي، وبفن العمارة الإسلامية.
محاضر ومعد ومنسق لعدد من الجلسات الثقافية والسياسية والأدبية التي استطاع خلالها جذب عدد كبير من السياسيين والمثقفين والإعلاميين والمهتمين تحت رعايته شخصياً أو من خلاله، والتي تقام بإحدى الصروح الثقافية في عمَّان أو في صالونه الأدبي في منزله.
يمتلك البستاني ذاكرة خصبة تُكال بالذهب، لقدرته الفائقة على تذكّر السِّير الذاتية لضيوفه، وهو مُقَّدم بارع لهم، وتعريفهم ببعضهم بطريقة مستحبة تدخل السريرة إلى قلوبهم . وهو ذاته الطبيب الإنسان الذي يحمل في قلبه حباً للأردن وذاكرة ممتلئة بحكايا جميلة لشخوص عريقة فارقت الحياة أو على قيدها.
بكل فخر أُحني قبعتي احتراماً لفارس من فرسان الرعيل الأول قَدّم لذاكرة الوطن تاجاً من العطاء.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات