هذه تأملات مع زرعة الروزماري العزيزة اثناء العناية بها، أخذتني إلي ابعاد إنسانية من عالم النبات.


كنت اروي زرعة الروز ماري اليوم، ويبدو انها علي وشك الجفاف لان الجذور لا تستطيع التنفس بسبب خطأ قمت به أثناء نقل الشتلة الي حوض أكبر، المهم نشكر الروز ماري التي جعلتني اتأمل في حقيقة الحياة الطيبة علي قدر معرفتي الحالية… اتصور الصدق كثمرة في شجرة طيبة، جذور هذه الشجرة الإيمان (بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره)، هذا الإيمان الذي لا يبني علي العقل في ابتدائه، إنما هو كمال التسليم حتي وإن لم تفهم الحكمة العقلية وراءه... العقل سوف يعمل فيما بعد إما ليجعل هذا الإيمان اكثر ثباتاً وإما ليزعزه... (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) ووجدت ان كما لكل منطق درجاته، وتفصيلاته، ومستوياته، فإن الصدق ايضاً له درجات ومستويات، منها ما يدركه الإنسان، ومنها ما لا يدركه الإنسان، وما يدرك من الصدق، احيانا يخلط مع العزيمة والمثابرة، وهو خلط قاصر في وجهة نظري، منشأه ثقافي واجتماعي، أما ما لا يدرك من الصدق، فلا أستطيع تفسيره، لكن إذا زادت نسبته، كان الفرد صادقا، وإن لم يعلم انه صادق، لكن أحواله بين العباد تفضحه، وهو عاجل بشري المؤمن ( ومَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ ويَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا) هو لم يكتب صادقاً المرة الاولي، لزم السعي والصبر علي افعال الصدق ليكون صادقاً...


أما عن جسد هذه الشجرة من الساق والغصون والجذوع فهي أعمالنا (القلبية والبدنية) وهي العبادة، وإذا كان الإنسان مؤمن بحق، اصبح كل عمل يعمله عبادة، من شربة الماء التي تروي ظمأه، إلي قطعة فنية، قد ينظر الناس إليها انها مجرد قطعة فنية، لكنها عند الله عبادة، مادامت الجذور التي تغذيها مؤمنة... فتكون الثمار صدق وأنس وخشية ورضا وطمأنينة ومحبه وتقوي، ولكل عبد ثماره، مختلف ألوانها واشكالها وأوقاتها في عمره وفوائد أكلها علي الروح والجسد... لا يملك العبد جني الثمار قبل رعاية الشجرة واشتداد عودها، وإذا انشغل العبد بطلب الثمار، ضيع عمره في شر ظاهره خير، إنما بالسعي والصبر والتواصي بالحق، ينمو النبات وتشتد اوراقه واغصانه، ويجني العبد ثمرات لا يتوقعها، وهي ثمرات خاصة بحاله هو… وسعيه هو… وابتلائه هو… ومن وقع في تمني ثمار غيره خسر ثماره، وجذوره، وخرت شجرته علي حين غرة، مفتتة، مستوية بالأرض، خواء لا يصل إليها ماء ولا غذاء... ويحزنني انني لاحظت "بعض ولكن كثر" ممن وافقوا علي حمل بعض الأمانات في نشر العلم ومساعدة المحتاجين، وإرشاد التائهين، وطمأنة الخائفين... قد اهتموا كل الاهتمام "بالثمر" وضيعوا الأصول سواء بجهل، او علم، او اضطرار لتبسيط وتسليع المعارف... واجد ذلك متفشياً و سائلاً في الخط الأول من التعلم، وهو التنمية البشرية ، ويليه الخط الثاني من التعلم وهو العلوم النفسية... كما اري ان العديد ممن اهتموا بشكل مبالغ فيه بالجذور، قد قزموا النبات، واحيانا تعفنت الجذور من المغالاة والتشدد، برغم ان الله سبحانه وتعالي قال لنا (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)...


أنت مولود بجذورك، وعليك تغذيتها بالعبادة وإعمال العقل بالتعرف علي الله سبحانه وتعالي والتعرف علي نفسك، والله بعث لنا الرسل والانبياء يصفون لنا كيفية هذه العبادة علي ما نطيق ونستطيع ونصبر... وجعل السعي براحاً نتفنن فيه، بالظبط كما جعلنا قبائل وشعوب ، من كان مسعاه براً كانت ثمرته تقوي، اتذكر نفسي في سنين مضت، عندما كان ينصحني احد الطيبين أن افعل كذا وكذا، كنت اشعر بحيرة شديدة، وعجز عن تطبيق نصيحته، او حينما كنت اقرأ كتب التطوير الذاتي (ايوة يعني اعمل ايه؟)


هذه الحيرة والعجز أثمرت عن قاعدة أطبقها في حياتي ما استطعت، “هناك من الأمور الظاهرة ما تنجلي وحدها، اذا ما صلحت أمور أخري باطنة” ، بمعني أن لا اشغل بالي بأعراض الداء وأفتش فيه، وأحلله، وافنده، إنما منبع الداء هو شفاءه، ولا نصل إلي النبع إلا بالإيمان والعمل ( قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )و متي ما وفق الله العبد لمعرفة منبع داءه، فالتوكل أجل الاعمال، والاستسلام والسعي ما استطعنا إليه سبيلاً، وهذا حق النفس، أما حق العباد، فاللنصح أدب ومشقة، إذا لم تقدر علي التأدب (تحط به علماً) وتحمل المشقة (تحمل النقاش والتكرار والتعهد والتواصي)، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولا تجعل لنفسك حظاً فوق نفساً اخري خلقها الله جزوعه هلوعه، فما عليك إلا البلاغ، وللبلاغ احوال قلبية لا يصح إلا بها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تكرهوا مرضاكم على الطعام، فإن الله يطعمهم ويسقيهم)، فاللهم علمنا ما جهلنا وارزقنا الفهم عنك، والعمل علي مرادك والحمد لله رب العالمين.


الإسكندرية، مصر، ١٤ ديسمبر ٢٠٢٠


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات شباك السعادة - happiness window

تدوينات ذات صلة