البحث عن السعادة يبدأ في الأسرة، ومفتاح السعادة المشاركة والتقدير والتعاطف، وهو ما يبني لدينا المناعة النفسية لنواجه هذه الحياة ونتمتع بعلاقات سوية.




مع بداية الألفية الجديدة تغير مفهوم الأمومة في بلادنا العربية .. وكان لهذا تأثير كبير علي تركيب الأسرة، ومفهوم الاعتماد علي الأسرة ومكانة الأسرة وقيمتها في المجتمع، وأصبحت النزعة الفردية الثورية المتمردة تغزو الكيان الفكري للأمهات بعد سنين من العطاء الغير مشروط، وبدأت الكثير من الأمهات الجدد في التمرد علي العادات والتقاليد المتعلقة بالزواج والانجاب وغيرها من مهام الأمومة، ولم يكن هذا التمرد وليد اليوم والليلة، بل كان تراكما للعديد من الخبرات الحياتية التي تعرضت لها الأمهات وشهدها الأبناء، ومنهم من أنكروها ومنهم من تماهي معها، بل وورثها في حياته ... والحقيقة أن تمرد الأمهات هو قشرة للبركان الذي يغلي تحت أضلعهن، هذا البركان الذي يغذيه غياب "التقدير" و "التعاطف" في ظل العديد والعديد من المهام المختلفة والمتشعبة المطلوبة من الأمهات، وفي بعض الحالات قد تقوم الأم بدور الأب ايضاً... فظهر لدينا جيل الأمهات اللاتي يشعرن أن أعمارهن قد ضاعت في تربية الأولاد والركض خلف متطلبات الحياة بدون تحقيق معني ملهم لحياتهن .. والمفاجأة عزيزي القارئ أن هذا التحول لم يحدث فقط في بلادنا العربية، بل بدأ ايضاً في الانتشار في البلاد الغربية .. هناك موجه عالمية من تمرد الأمهات علي أوضاعهن ... وأريد ان استبدل الآن مصطلح "التمرد" بمصطلح آخر وهو "الصحوة" ... الجميع الآن علي مستوي العالم حدثت لهم صحوة ما لسبب ما، جعلهم يبحثون عن "السعادة الشخصية" ... الرجال يثورون علي الأعباء والمسئوليات التي كبلتهم وجعلتهم يدورن في رحي الرأسمالية بلا هوادة ... يثورون علي المعايير الثقافية لوصف الرجل بأنه رجل، بينما النساء يشاركونهم في مثل هذه الصحوة والثورة ولكن زد عليها غياب "التقدير" و"التعاطف" الذي تحتاجه المرأة بطبيعتها لكي تستمر في أداء المهام الحياتية المختلفة، والذي لا يكلف الرجل شيء سوي أن يكون داعما صادقا .. لكن هذه الصحوة مثلها مثل أي صحوة غير منظمة وتلقائية .. ساهمت بشكل سلبي في تفكيك الأسرة، عن طريق التقليل من قيمة "المشاركة" ورفع قيمة "النزعة الفردية" .. اصبح الجميع يريد النجاة بنفسه، وقلة قليلة هي التي تتشارك سويا في رسم خطة مشتركة للنجاة ... من يبحث عن السعادة وحيدا سوف يجد نفسه في نهاية الطريق ينظر في مرآة لا يري فيها معني لحياته، وسوف يكفر بكل الخير والعطاء الذي قدمه في الماضي، وتنقلب النعم في عينيه إلي نقم، وقد لا يشعر بوجود النعم في حياته من الأساس.


دعني أوضح لك كيف يحدث البحث عن السعادة بشكل منفرد:


يبدأ ذلك بتصور أنك مسئول عن إصلاح كل شيء، تشعر الأم أنها مسئولة بشكل كامل عن زوجها وأبنائها .. ثم تقرر أن تضحي في اتجاهات هي وحدها تراها ضرورية دون مشاركة مع أعضاء الأسرة .. ثم تفني عمرها في تضحيات تعتقد أنها ضرورية ولا مفر منها، ولا نقلل من شأن الأمهات وما فعلن في حياتهن، بل نقول أن "المشاركة" مهمة، مشاركة الرغبات والمشاعر والمخاوف والألم مع افراد الأسرة ... الأب الذي قرر أن يفني عمره في الغربة لكي يقدم لأسرته الحياة الكريمة.. هل كانت هذه التضحية بالمشاركة مع أفراد الأسرة ... هل تحمل أفراد الاسرة جمعيهم مسئولية أن تكون هذه الأسرة سعيدة .. إن غياب المشاركة في تحمل المسئوليات واتخاذ القرارات يورث أي شخص سوء تقدير للأمور والنعم وما يحصل عليه من الآخرين، ناهيك عن اهتزاز الصورة الذاتية عن كفاءة النفس ... ولن نستطيع تغيير هذا العالم الذي ينمو بسرعة كبيرة، لكننا نستطيع تغيير عوالمنا الصغيرة، بل ولن نستطيع مواجهة رأسمالية الاحتياجات والمشاعر والرغبات، هذا ليس الحل الأصوب لتحقيق السعادة ... إنما المفتاح هو "المشاركة" ونبذ الاعتمادية الخفية والظاهرة .. الجميع مسئولون عن اخطاءهم والجميع مسئولون مسئولية كاملة عن أنفسهم، ولكن الجميع ايضا جزء من بنيان ونسيج لا يجب تمزيقه لمجرد تحقيق رغبة ما لإضافة معني مزيف للحياة، ما يحدد المعني الحقيقي للحياة هو ما تريده الاسرة معا .. ولا يعني ذلك ذوبان الفرد بالكلية في الاسرة، بل يعني أن يزدهر كل فرد داخل الأسرة بشخصيته المستقلة، حيث يتم تقدير مميزاته والتعاطف مع عيوبه.. فتكون الأسرة بوتقة ينصهر فيها الشخص ليكون أقوي وقادرا علي مواجهة هذا العالم بنفس سوية وراضيه عن نفسها وعن الآخرين ... لكن ما يحدث الآن هو أننا نثور علي الخارج وليس الداخل.. وما يحتاج للإصلاح بالفعل هو الداخل ... لكننا غير مسئولين بشكل كافي لنواجه الداخل ونصلحه سويا .. الأسهل أن نستخدم مجموعة من المسكنات الخارجية مثل الدخول في علاقات مؤذية، والاسراف في الرغبات و الإسراف في الإنجازات الفردية والتمرد علي كل شيء، ومقارنة حياتنا بحياة الآخرين، وتعميق الشعور بأننا ضحايا .. وقد تجد ذلك جليا في التمرد علي الآباء والأمهات .. نعم لا تخلوا أسرة من إساءة قد حدثت لأحد أبناءها .. لكن الأسرة نموذج مصغر لهذه الحياة التي نعيشها .. لم يخرج أحد لهذه الحياة وعاد مثلما خرج، مهندم اللباس وممشط الشعر، بل لقد تمزقت ثيابه وتحطمت أحلامه، ولكن المسئولين عن حياتهم هم من عادو وقاموا وجاهدوا ... أليست أسرتك أولي بالمقاومة والإصرار علي النجاح .. حتي أنت يا صديقي، من تأذيت أذى بالغ من أسرتك واستحال أن تكون جزء منها لاستمرار الأذى، إذا قررت أن تأخذ بمجاميع نفسك، وتتخذ القرار بالمسئولية الأولي عن سعادتك، سوف تستطيع بسهولة أن تكون أسرة جديدة، وسوف يوفقك الله لصدقك في السعي ومجاهدة نفسك.


وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) القرآن الكريم- سورة العنكبوت




في النهاية، أود أن احكي لكم كيف تطهو الأمهات السعادة ... نعم السعادة تطهي في المنزل، يأكلها الأطفال وتنمو مناعتهم تجاه تقلبات الحياة وتصبح لديهم مناعة نفسية تحميهم من الانكسار والخذلان ... من يوم أن توقفت الأمهات عن طهي السعادة، ذبلت عيون الأطفال، هربوا من الواقع الي الخيال، أدمنوا الحاسوب والهواتف الذكية ومواقع التواصل الاجتماعي، أصبحت وظيفة التواصل الاجتماعي هي اشباع الجوع الداخلي للسعادة الذي لم يتم تقديمه لهم .. وفي الحقيقة بعض الأمهات لم تستطع الطهي، لأن رب الأسرة لم يستطع إحضار ما تستعين به في طهي السعادة .. إما عجزا وإما قهرا ... في النهاية الحياة ليست سهلة ... لكن "التقدير" و"التعاطف" و "المشاركة" تسهل كل شيء، تجعلك أكثر تقديرا لما حصلت عليه، وأكثر تفهما لما حرمت منه، وأكثر مسئولية عن حياتك.



ولكن كيف تطهو الأمهات السعادة؟


عاشت أم جدتي ١٢٠ عاما .. وعندما توفيت كانت تأكل طبقا من القلقاس المطبوخ علي الطريقة المصرية ، وكانت حالتها الصحية جيدة، كانت تستيقظ كل يوم لديها رغبة في الحياة، برغم بساطة حياتها وبرغم كثرة ابناءها وكثرة المسئوليات .. كانت لا تعلم عن شيء في الحياة أكثر مما تحتاجه .. ولا تأخذ من ملذات الحياة أكثر مما تحتاجه، لم تحاول السيطرة علي الأمور .. توفي لها من الأبناء من توفي، كانت الخيارات حولها محدودة، من أول الملبس والمأكل وقنوات التلفاز ووسائل الترفيه وغيرها، لكنها عاشت طويلا وعاشت سعيدة أكثر مني ومنك... ولقد دعاني هذا للتأمل كثيرا .. كيف يمرض الجسد؟ .. بالطبع إذا حدث أي زيادة أو نقصان في مادته، سواء أدخل إليه شيء ضار، أو أصيب داخليا بأي نقص ... وما علاج الجسد في المرض؟ ... علاجه إما أن يستفرغ ما أدخل إليه .. و إما أن نتبع الحمية عن ما يضره ... أي نتجنب ما يسبب له المرض، حتي لو كان أمر مباح للجميع، لكنه يؤذيني انا... كذلك صنعت جدتي السعادة ... تخلت عن كل الأمور والاشياء التي تعكر صفو حياتها، وهي في الغالب أمور واشياء وليست أفراد ... واتبعت حمية عن الأخبار والمعلومات والقيل والقال والأوهام والأفكار السلبية، وعاشت علي قدر طاقتها وعلي قدر وسعها .. وكأن لسان حالها .. مقامك حيث اقامك فلا تلتفت عن مقامك إلي مقام لست ببالغه فتشقي ويشقي بك من حولك. اعتقد أننا جميعا لدينا مذاقنا الخاص في طهي السعادة، ولدينا وصفاتنا السرية، ولدينا الاستعداد الفطري لفعل ذلك دون مقابل، ألم يأن الوقت لتغذية أنفسنا ومن حولنا ممن هم في دوائر تأثيرنا؟ .. إذا بدأت اليوم وواجهت الداخل، قد ينتهي بك الأمر في العام المقبل، جالسا علي طاولة مع من ترعي وتحب، تتناول وجبة يحبها ويقدرها الجميع، لأن الجميع شارك في صنعها ولم تفرض عليهم... وربما اخبرك طفلك أن جلوسك معه أهم من تحصيل الأموال، وقد يخبرك طفلك انه سعيد الآن لأنك أصبحتِ اقل عصبية وتوتر، من يدري .. ربما يسد جوع الجميع للسعادة ويبدأ الجميع سويا في الإنتاج والازهار وترك بصمة في هذه الحياة، بغض النظر عن ما يحدث في هذا العالم، فقط احرص ان تكون دائرة تأثيرك خضراء مزهرة دائما، دمتم بخير علي قدر تحملكم وسعادة بقدر حاجتكم.


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات شباك السعادة - happiness window

تدوينات ذات صلة