من بين مئات المنشورات والرسائل على وسائل الإعلام، كيف لنا أن نميز الحقيقة من الخرافة؟ هل يكون لها سماتٌ مشتركة؟


في لقاء مع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، تحدث عن فعالية "الكلوركس والمطهرات المنزلية" في القضاء على كوفيد19، واقترح أن يتم حقن المرضى بالكلوركس لعلاج المرض. وبينما أنتم يا أصدقاء تفكرون بسخافة الفكرة، فقدَ مواطنان أمريكيان حياتهما بسبب تناول المنظفات بعد حديث ترامب. وفي حال كان لديك شكٌّ بمستوى ذكاء ترامب والشعب الأمريكي ليُصدقوا خرافة واضحةً كهذه، فإليك ستيف جوبز – مؤسس شركة أبل- الذي لم يحمِهِ ذكائه و لا ثروته من الوقوع كضحية للأعشاب والديتوكس والإبر الصينية حين تعرض للإصابة بسرطان البنكرياس، ورغم أنه اكتشف المرض بمراحله المبكرة، إلا أن تأخره في العلاج واعتماده على المعالجة الشعبية تسبب بوفاته.

إليزابيث هولمز (19 عاماً) مُبتكرة الجهاز الذي يعرف كل شيء عنك بقطرة دم واحدة، والتي صدعت رؤوسنا باللقاءات على وسائل التواصل والبرامج والمنصات المشهورة مثل TED، تواجه اليوم قضية نصب واحتيال بملايين الدولارات، حين اكتشفت السلطات أن جهازها خارق الذكاء ليس إلا "خدعة" وأنها تستعمل الأجهزة العادية الموجودة في كل مختبر لتحليل عينات الدم.


والحوادث من هذا النوع تكادُ لا تنتهي، وأخبار ضحايا الخرافة كُثر، إلا أنه -ولسبب ما لا أعرفه-لا تنتشر قصصهم بالسرعة نفسها التي تنتشر فيها الخرافات والمعلومات المغلوطة على وسائل التواصل الاجتماعي (البيئة الحاضنة للجيد والسيء من المعلومات)، ولنكون إيجابيين في تضامننا مع ضحايا الخرافة، دعونا نستعرض بعض الصفات التي تساعدك لتميّز خرافات الانترنت من حقائقها:



السمةُ الأولى: أنها تُكتب بلغة "الخير المُطلق" أو "الشر المطلق"


مُعظم الرسائل التي تنتشر عبر واتساب (وفيسبوك وربما مقاطع يوتيوب أيضاً) تتحدث عن فوائد الزنجبيل السحرية الخارقة لعلاج كل شيء دون أضرار (بحُكم أنه طبيعي؟)، وتُهوّل أضرار الحليب (أو بالأصح تُشيطنه!) وكأنه أبو الأمراض والسرطانات..


الحقيقة التي لا يسعُ العاقل جهلها، أننا نعيش في الدنيا وليس في الجنة، والطبيعيّ فيها: أن لكل شيءٍ جانباً جيداً وآخر سيئاً:

  • الماءُ وهو الذي لا حياة بدونه، يُصبح ساماً عند تناول 6 لترات منه في اليوم!
  • والشوكولا التي تستمتع بأكلها، تُعد سامةً بالنسبة للكلاب..
  • والأسبرين (المُستخرج من شجرة الصفصاف) يُستعمل في الوقاية من الإسقاطات المتكررة يُعد مشوهاً لأجنة الفئران.


وهكذا.. لكُل شيءٍ جانب مُظلم..


تذكّر: كل ما حولنا (سواءً كان طبيعياً أم كيميائياً) يُمكن أن يكون نافعاً من وجه، وضارًّا من وجهٍ آخر، وهنا يكون استخدام الدواء أو العشبة "بالجرعة الصحيحة وبالطريقة الصحيحة وللمريض الصحيح" فيصلاً في حصولك على الفائدة منه بأقل ضرر ممكن.



السمةُ الثانية: أنها تُكتب بلُغة المؤامرة


من منا لم يقرأ عن مؤامرة ما لقتل البشر من عرقٍ أو جنسٍ أو ديانةٍ ما عن طريق الأمراض والأدوية كحقن الفاكهة بالإيدز!

وآخرها ما أُشيع عن مؤامرة تطوير لقاح كوفيد19 (الذي يُعد الاستجابة الطبيعية لانتشار وباء عالميّ.. ولازلت لا أفهم ما الذي كان يجب أن يحدث إزاء انتشار وباء إلا البحثَ عن دواء أو لقاح؟ هل نعدّ النجوم مثلاً ريثما يموت من يموت ويمرض من يمرض والبقاء للأقوى؟)

ولا بُدّ أنك قرأت شيئاً "لا يُريدك الأطباء أن تعرفه" (وكأن كل الأطباء حول العالم اتفقوا على مصّ الدماء من أول يومٍ في كلية الطب)


معظم المعلومات التي ستأتي بعد هذه المقدمات المشهورة ستكون معلوماتٍ خطأ!

دعنا نتذكر سوياُ، أليس هذا نفسه أسلوب فرعون وقوم لوط وقوم إبراهيم وكفار قريش في التشكيك بدعوة الأنبياء؟

بينما كان أسلوب الأنبياء في الرد قائماً على الحجة والدليل، وقوياً بنفسه لا بالتشكيك بغيره.


تذكر: الخرافات الطبية، لا تستطيع أن تقوم على التجربة السريرية والمنهجية لأنها ستكشف زيفها، ولذلك تلجأ لاختلاق المعلومات، ولإشعال إحساسك بالخطر، ورغبتك ألا تكون مغفلاً عن طريق عرضها كمؤامرة، وبذلك تقنعك بتبنيها وتصديقها.

وإلا لماذا لا نرى بحوثاً سريرية محكمة ومراجعاتٍ منهجية في خصوصها؟ ما الذي يمنعهم من إقامة بحث طالما أنهم على حق؟



السّمةُ الثالثة: أنها تعبث بالعواطف والمشاعر!


وهذه -من وجهة نظري- هي الأسوأ، إذ تعتمد على نسبة شيءِ ما للنبي صلى الله عليه وسلم أو للقرآن الكريم كذباً وافتراءً، وهما منها بُرآء !!

موضوع الطب النبوي موضوعٌ يحتاجُ طرحاً مستقلاً (إذ تختلطُ فيه الطرق الشائعةُ في التداوي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، بالذي أوصى به، وبه من الأحاديث الموضوعة والضعيفة وعدد من الآثار التي لا تصح).

هكذا يستغلون عواطفنا تجاه كتابنا ونبينا، وجهلنا بمبادئ علوم تفسير القرآن والحديث ما يصح منها، وما يعمّ وما يخص.


وهُنا يحضُرني ما يُشاع عن فوائد الاستحمام بالماء البارد، وربطها بالآية (42) من سورة ص (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ۖ هَٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ)

لا تقول الآية أن الاستحمام بالماء البارد دواءٌ صراحةً، لكنها تحتمل ذلك، بالإضافة لعدد كبير من الاحتمالات الأخرى:

فهل كان الماء الذي فجره الله لأيوب عليه السلام مُعجزة خاصةً به؟

أم أنه يعمّ لكل داء؟ أم هو أمر إلهي له حكمة لا نعرفها؟

ولا ندري هل شافاه الله قبل اغتساله بالماء أم بعده؟ أم أن الشفاء كان بهذا الماء دون غيره؟

كل ذلك يحتاج لجهد منا في البحث والدراسة، وليس الاعتماد على الظن والتخمين والتخيلات..


تذكر: أن ديننا يأمرنا بالتداوي، وما يُذكر في القرآن والحديث عن فضل التداوي بشيء ما يحتاج منا مزيداً في الاجتهاد في البحث عن الطريقة الصحيحة للتداوي (بالعسل مثلاً) وعن الاستطبابات التي يمكن أن يُفيد فيها..

وأما إطلاق الفوائد على كل شيء بحجة الدين، فهو ظُلم وكذب على الله ورسوله.



السّمةُ الرابعة: أنها بتوقيع كاتبٍ مجهول!


وربما نسميهم "دكاترة السوشيال ميديا" بشكل أدق، فنحن لا نعرف إن كانوا شخصياتٍ بأسماء حقيقية أم وهمية، ولا إن كانوا أصحاب شهاداتٍ حقيقية أم وهمية، خاصةً حين تصل الرسائل والمنشورات بصيغة غير علمية ولا صحيحة، وتُناقض أبسط القواعد العلمية والطبية والمنطقية، مثلاً أن الليمون الذي بمجرد ذكره تشعر بحموضة طعمه في فمك: طعامٌ قلوي!، أو أن السرطان هو نقص فيتامين B17 ؛ بينما لا يوجد فيتامين B17 أصلاً!!

أو ربما تُرجع الرسالة لجهة أجنبية لم نسمع بها من قبل، وغير معترفٍ بها عالمياً (والأجانبُ أيضاً بينهم محتالون ومنتحلو صفاتٍ طبية)


تذكر: على الانترنت، لا أسهل من ادعاء التخصصات والشهادات والابتكارات، من المهم أن نستشير الثقة من أهل التخصص، وأن "نُعطي الخباز خبزه". الطبيب الذي قضى عمره في الدراسة وبين أروقة المستشفيات ووصفات الأدوية يعرف في مجاله أكثر من كاتب رسالة واتس، وقادرٌ على تمييز الصواب من الخطأ.



السمةُ الخامسة: التجارب الشخصية


إحدى السيدات كانت ترغب في إنجاب "توأم"، وتقول أنها ذهبت للطبيب الذي أعطاها علاجاً ما لتناوله، وأصبحت تشرب الميرمية خلال هذه الفترة (لأنها قرأت أن الميرمية تسبب إنجاب توأم)، وفعلاً تم حملها بتوأم.. لكنها يا أصدقاء بعد ذلك أصبحت تنصح الناس على فيسبوك بشرب الميرمية لإنجاب توأم ونسيت تماماً موضوع العلاج والدواء.

وهذا ما يحدث في معظم التجارب الشخصية!

لدى البشر ذاكرة انتقائية، تجعلهم يميلون لتذكر التجارب الناجحة، والربط بين الأمور الجيدة التي تحصل لهم وما يتناولونه، واختراع علاقات بين ما يحدث حولهم (إذا افترضنا أن صاحب التجربة صادق، ولا يهدف للترويج لمنتج ما، أو لركوب الموجة والشهرة).

النقطة الأخرى أننا كبشر لا يُشبه بعضنا بعضاً في الظروف التي تحكمنا، فالآسيويون على سبيل المثال أقل الأعراق إصابةً بسرطان الثدي، وأكثرهم تعرضاً لعدم تحمل اللاكتوز (عدم تحمل الحليب)، بينما الأمريكيون الأفارقة أقل الناس استجابة لأنواع من أدوية ارتفاع ضغط الدم.. وهكذا بيننا فروقات كثيرة في التعرض للأمراض، وتحمل الطعام، والاستجابة للأدوية.

تخيل إذا جرب أحدهم أن يُصلي بدون وضوء (وزبطت معه)، فليس من الحكمة أن تُجربها مثله. ربما كان يجوز له أن يتيمم، بينما ظروفك المحيطة لا تمنعك من استعمال الماء.


تذكر: لا يوجد ضمانات لصدق التجارب الشخصية على الانترنت، وإن صدقتْ.. فلا يوجد ضمان أن ما نفع غيرك سينفع لك (فنحن مختلفون).



الآن، لنفترض أن رسالة ما تتحدث باعتدال، ولا تتطرق للمؤامرة، وكاتبها شخص تعرفه، وتعتمد على بحث حقيقي، هل هنالك سبب ألّا نصدقها؟

- في الحقيقة، لايزال هنالك ما يجب ألاً تنخدع به 😊



السمةُ السادسة: البحوث الضعيفة


عالم البحوث العلمية عالمٌ ضخم، وهنالك مستوياتٌ مختلفةٌ من البحوث، وأنواعٌ مختلفة من البحوث، تتفاوت في قوتها وإتقانها وطريقة تصميمها، وبالتالي لا تتساوى نتائجها وتوصياتها.

يُشكل بحث ما جزءً صغيراً من مجموع البحوث والدراسات في موضوع معين، يمكنك تخيلها كقطعة بازل واحدة ضمن صورة مكونة من ألف قطعة. فإذا أمسكت قطعة واحدة وتأملتها، لا يمكنك تخيل شكل الصورة الكاملة الكبيرة. وبينما بعضُ البحوث تعتبر قويةً، بعضها الآخر فيه الكثير من نقاط الضعف والانحياز والأخطاء في التصميم. ولهذه الأسباب لا يمكنك تعميم نتيجة بحث واحد وتحويلها لتوصية تُطبق حول العالم.


إضافةً لذلك، فإن اللغة التي تُكتب بها البحوث، لغة دقيقةٌ جداً لا تحتمل الإيحاءات ولا تُناسب الذين يقفزون إلى الاستنتاجات. فإذا توصل بحث ما لوجود علاقة بين الملوخية والشقيقة فهذا لا يعني أن الملوخية تُسبب (أو تعالج) الشقيقة بطريقة مباشرة، ولكنه يُشير إلى وجود رابط من نوع ما بين الاثنتين. وهذا هو الفخ الذي يقع به أغلب الذين يترجمون البحوث العلمية من غير المختصين في هذا المجال (الإيحاء بشيء لا ينص عليه البحث صراحةً).



فإذا مرّ أمامك منشورٌ أو وصلتك رسالة تنطبق عليها هذه السمات الستة، تذكر الذين عانوا بصمت ولم تُنصفهم ترندات الانترنت ولم يتعاطف مع قضيتهم أحد، ولم ينتصر لهم أحد، وتحقق من صحة الرسالة (ليس عن طريق د.جوجل بكل تأكيد). فإن لم تستطع، فتجاهلها و دعْ هذه المنشورات تموت في هاتفك قبل أن تُميت غيرك.



ودمتم وأحبتكم بصحة وعافية




ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

اشكركم على الموضوع الجميل دا

إقرأ المزيد من تدوينات هنا عاقولة

تدوينات ذات صلة