حين تعلم أن هنالك أكثر من مئة ألف مادة كيميائية تدخل في الصناعات المختلفة، فلابُد أن تُفكر بالسرطانات والأمراض المناعية والتشوهات وكثير من الأمراض الأُخرى.
لكنك ستُفاجئ حين أُخبرك أن متوسط عمر الأنسان يزداد بمقدار شهر واحد لكل سنة!
وأن التشوهات الجنينية بسبب الأدوية ومكونات البيئة والإشعاع مجتمعةً تُشكل فقط 10% من مجموع التشوهات الجنينة في العالم.
وأن نسبة حالات السرطان التي تحدث بسبب التعرض للمواد الكيميائية تبلغ 7% فقط من مجموع حالات السرطان حول العالم.
وأن هؤلاء الذين يخافون من اللقاحات بسبب محتواها الضئيل جداً من الفورمالدهيد، لا يعرفون أن إجاصة واحدة تحتوي كمية أكبر من الفورمالدهيد ب83%!
يخشى الناس من كيان غامض ومشبوه يسمى "المواد الكيميائية"، والتي تمثل -تِقنياً- كل شيء من حولهم، ابتداءً من أنفسهم وانتهاءً ببيئتهم المحيطة!
وخوفهم هذا يبدو منطقياً إذا علمنا أن وسائل الإعلام قامت برسم صورة خبيثة لكلمة "كيميائي"، فيتهيأ للسامع أنه يسمع عن خطر يتربص به، وتُثير لديه تجاوباً عاطفياً مع الكلمة، بعيداً عن المنطق والعقل.
وحتى لا أُطيل أكثر، دعونا نستعرض الاعتقادات التي تجعل الناس ترتاب من المواد الكيميائية:
# هل المواد الكيميائية مؤذية؟
فكّر بجسمك، وبملابسك، وطعامك وشرابك والهواء الذي تتنفسه.. أنت ومُحيطك معاً تُمثلون تجمعاً كبيراً للمركبات الكيميائية!
الماءُ (H2O) مادةٌ كيميائية، وكذلك الملح (NaCl) والسكر (C12H22O11)، والكافيين (C8H10N4O2) في قهوتك، والكاكاو (C7H8N4O2) في حلواك المفضلة، وفيتامين سي (C6H8O6) في البرتقال الذي اشتريته اليوم، والسيروتونين (C₁₀H₁₂N₂O) الذي يلعب في مزاجك، والهيموجلوبين (C2952 H4664 O832 N812 S8 Fe4) الذي ينقل الاكسجين لخلاياك..
كلها مواد ذات تركيب كيميائي مميز وفريد، يُعطيها خواصاً مذهلة. الماءُ أساس الحياة، والسكر غذاء أعصابك الوحيد، والكاكاو غذاء محبب للقلب، والسيروتونين يزيدك سعادة وفرحاً.
وأمام هذه الحقائق، يتبين أن وصفُ مادة ما بأنها "كيميائية" في الحقيقة لا يعني أنها غير طبيعية، بل لا يعني شيئاً إطلاقاً، ولا يُخبرنا أبداً إن كانت نفسُ المادةِ طيبة أم شريرة!
# هل "الطبيعي" دائماً أفضل؟
لنتفق أننا مخلوقات مُحبة للطبيعة بشكل فطري، ونشعر بالراحة لها. وهذا سبب وجيه يجعلنا نتغافل عن بعض جوانبها المؤذية (فالحُب أعمى).
ماذا لو وجدت حشرة (صرصور مثلاً) في كوب ماء، بالتأكيد لن تشربه برغم أن الصرصور طبيعي 100%. هنالك عدد من الحيوانات (الأفاعي والضفادع والقطط والكلاب والفئران) تحمل الجراثيم وتفرز السموم، وهنالك النباتات الطبيعية السامة والمُخدرات. لا يشفع لها أنها طبيعية، ولا يضيف لها سمعةً حسنة.
ولنزيدك من الشعرِ بيتاً: أحياناً تكون المواد المُصنعة أقلَّ ضراراً من تلك الطبيعية!
ومثالُ هذا: بقايا المبيدات الحشرية الصناعية العالقة بالخضروات والمزروعات تُعتبرُ أكثر أماناً من المكروبات والفطور التي يمكن أن تصيب المزروعات وتلحق بها وبنا الضرر (مع ان الفطور والمكروبات كائنات طبيعية). بل أن مبيدات حشرية طبيعية مثل سلفات النحاس الذي يستخدم في زراعة التفاح العضوي(نعم، في الزراعة العضوية تُستعمل المبيدات الحشرية أيضاً) تُعتبر أكثر سمية من المبيدات الصناعية !!
# كلمة "كيميائي" ليست ضد كلمة "طبيعي"، وكلاهما لا يصفان "السموم"!
استخدام هذه المفردات كأضداد ومرادفات يُعد استخداماً خطأً، ولأُوضح ذلك بمثالين مشهورين:
الماء:هو مركب كيميائي (H2O) وهو أصل الحياة على الأرض .. يبلغ مقدار الجرعة السامة منه (LD50) = 6 لتر!
أما القهوة (الكافيين) فهي أيضاً مركب كيميائي (C 8 H 10 N 4 O 2 ) مستخرجٌ من مصدر طبيعي (حبوب البن)، ويبلغ مقدار الجرعة السامة منها (LD50) = 118 فنجاناً من القهوة في اليوم.
وهكذا، يمكن أن تكون المركبات الكيميائية طبيعيةً، وأن تكون سموماً في نفس الوقت ( 3ب1)، لأن هذه المصطلحات الثلاثة لا تتعارض مع بعضها بالضرورة.
فالكيمياءُ تصف تركيب كل شيء، والطبيعةُ مَصدر لأغلب المواد حولنا، والسموم تُمثل كل شيء حين يُستخدم بطريقة خطأ (ابتداءً من الأفكار، وانتهاءً بالأدوية).
# اجتزاء المعلومات من سياقها
وهذا الخطأ يرتكبه أغلب المروجين ضد المواد الكيميائية، ومندوبي المبيعات للمكملات العُشبية ومنتجات التجميل، ويُوضحه مثالان:
أولهما الأسبرين:
وهو مادة كيميائية ودواء قديم جداً يستخرج من ورق شجر الصفصاف، ويعتبر دواءً آمناً للإنسان البالغ ولا يؤثر على الأجنة البشرية (فأجسامنا بارعة في التعامل معه). ولكن الأسبرين غير آمن ومُسرطن للفئران، ويسبب تشوهات جنينية لديها.
جرب أن تجتزئ الجملة الأخيرة من السياق، وستُخيف كل حوامل العالم من دواءٍ بريء مهم لحماية الأجنة من التجلطات في حالات الاسقاط المتكرر. ( ببساطة، نحن لسنا فئراناً، ولا يحدث في أجسامنا ما يحدث في أجسامهم)
أما المثال الثاني فحليب البقر:
مما لا شك فيه أن هرمون الحليب في البقرة (BST) يرشح من جسمها إلى حليبها (سواء كان جسمها ينتجه، أو محقوناً به)، ولكن بفضل حمض الهيدروكلوريك القوي في معدتك، يتفكك الهرمون إلى أحماض أمينية (مثله مثل أي بروتين) بمجرد أن تشربه.. ولو افترضنا جدلاً أن هذا الهرمون وصل للدم بطريقة ما، ففي الجسم البشري لا توجد مستقبلات خاصة لهرمونات الأبقار (هرمون الحليب في الانسان لا يشبه هرمون الحليب عند البقر)
الآن.. جرب أن تجتزئ الجملة الأولى من المثال من سياقها.. وانظر إلى الزوبعة التي تحدثها!!
ألا يُذكرك هذا السلوك بمن يقتطعون الآيات من سياقها حتى يتغير مُرادها تماماً: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ) ...(وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ)
# المواد الكيميائية مرتبطة بالسرطان!
والمشكلة مع كلمة مرتبطة أنها كلمة فضفاضة جداً، قد تصف علاقة سبب ونتيجة، أو علاقة قوية ، أو ارتباطاً ضعيفاً جداً أو غير مثبت، ولا يمكن تحديد دلالتها بشكل ثابت!!
ربما تستغرب أن عدد المواد ذات العلاقة المثبتة بالسرطان قليل جداً (بالنسبة لمئة ألف مادة كيميائية في حياتنا) وأنها دُرست عبر عقود من الزمن (وليس في ورقة بحثية ضعيفة ويتيمة). مثل علاقة التدخين (التبغ وهو مادة طبيعية بالمناسبة) بسرطان الرئة، إذ تمت دراسة واثبات هذه العلاقة عبر عشرات السنين من الزمان..
والمشكلة.. أن في حياتنا أشياء مرتبطة بالسرطانات أكثر بكثير من مادة كيميائية: السمنة و نمط الحياة الخامل، والتدخين (الأركيلة والسجائر) والخمور ، ولكننا نتجاهلها لنركز على عناوين لاتزال غير مثبتة ولا دليل عليها.
الخلاصة:
لابد أن نكون مُنصفين و متوازنين في قراءة المعلومات وتقديمها للجمهور:
1- كلمة مركب كيميائي لا تدل على أصله ولا على أثره (قد يكون سيئاً أو جيداً )وكلمة طبيعي أيضاً لا تدل على أنه آمن وفعال (تذكر أن الماء طبيعي.. يمكن أن يتحول إلى مادة مؤذية )
2- اقرأ المعلومة في سياقها الصحيح: فكل شيء (بغض النظر عن مصدره) ممكن أن يتحول إلى سُم عندما يستخدم بطريقة خطأ أو يُعطى للحالة الخطأ.
3- عندما تقرأ إعلانا ترويجياً لمنتج طبيعي، تذكر أن الهدف هو اقناعك بالمنتج واستخراج النقود من جيبك ، وليس مصلحتك أو تقديم علم نافع لك..
والآن ما رأيكم : هل لاتزال الكيموفوبيا تبدو منطقية؟
وتذكروا أن للحديث بقية :)
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات