هذه المرَّة، كمِثلِها من المراتِ السابقة، سأكتبُ إلى الغرباء!
كأنّهم يشاركونني في لقمة العيش، ويقتسمون معي زجاجةَ الماء الباردة الوحيدة تحت شمسٍ تتغيَّظ، وكأننا نستندُ إلى أكتافِ بعضِنا بمظلَّةٍ لم يبقَ منها إلا أعوادُها، تحت مطرٍ يطرقُ رؤوسَنا بالذكريات، مكوِّنًا سيلًا جارفًا من الحنين. سأكتبُ إليهم وهم في غربتِهم، وأنا في غربتي، حتى تكون مذاهبُ كلماتي لهم مذاهبَ اللقاءِ في ورقة.
مِثلُك، أجلسُ في زاويةٍ يكاد الظلامُ يُخفيها، أنظرُ في الدنيا بعينٍ زاهدة، ويُغنيني عن لذاتِها كوبُ قهوةٍ سمينة لا يستسيغها أبي، وأرغبُ في تقييدِ الأفكار التي تعتريني بيدي المكبَّلة قبل هروبِها بلا رجعة، أنامُ تناسيًا، فألقَى الذكرى في المنامِ آلمَ وأجمل. مِثلُك، أمقتُ العالم، فأرضَى بزاويتي وأقنع.
مِثلُك. يستطيلُ الحزنُ خواطري القصيرة، ويُكَمكِمُ طِوالَها في كلمةٍ وجيزة، كأنها كلمةُ المرءِ الأخيرة؛ ذلك بأنَّ مقبرةَ الإنسانِ الأولى كلِمتُه، يظَلُّ مدفونًا بها، بأسرارِه وآمالِه. الحزنُ يُبكي الإنسانَ دموعًا مستورة، تأبَى أن تسيلَ إلا إذا كانت في كلمات. مع قولي هذا أشعر بأني مكشوفُ الهيئةِ في كتاباتي؛ بعينين دفقاوتين، تبوحان لكلِّ مَن هَبَّ ودَبّ.
مِثلُك. أكتبُ في الحبِّ لمَن يزهد عنه مني، وأتألَّمُ لذلك، ثُم أكتب بكلماتٍ من الغضب كرقائق القمح، تُشبه جدارَ حائطٍ أبيضَ متعرِّج يتهشَّمُ من الشَّيبة. أفكِّرُ طويلًا في الانقطاع عن الكتابةِ في الحب؛ كي أشتغلَ بواقعي، واقعي الذي يشيرُ بعشرٍ من يديه إلى أنَّ ما قضمَه الحبُّ من صدري لن يَرجِعَ إليَّ لحمًا في كتفي، وأنَّ مَن أسعى إليها، لَن تسعَى إليّ، بأيِّ حالٍ من الأحوال. أقولُ في نفسي وقد قلتُ للعامةِ منها الكثير: لِمَ علينا أن نبدوَ بهذا الضعف في كلماتٍ تبدو قويةَ المعنى، متساميةً بالخيال؟!
أعيدُ نشرَ ما كتبتُ فأمحو فأُعيد، كأني أَخيطُ الذاكرة. أزيدُ على ما كتبتُه قديمًا؛ بقلبٍ أكبرَ ثِقلًا، وعقلٍ أحكَمَ صَقلًا. وأُدرِكُ حينئذ، أدركُ دائمًا، أنَّ طُولَ تفكيري في الانقطاعِ لن يُجدي.
حسنًا، لا مفرَّ إذًا، سأبوح بسِرٍّ كبير. أنتم، أيها الغرباء، قد أخرجتموني حينًا من زوايتي، بعينيَّ اللتين تخافان النظرَ في وجوهِكم؛ لأنَّ الزهورَ تمحو مقتي للعالَم، وإن كانت ذابلةً من الحزن، فلا مانعَ في نفسي من أن أَصفَرَّ ويَنحَلَ بدني معها. ربما، يدفننا أحدُهم، معًا، في كتابٍ واحد. انظروا.. انظروا كيف لا أستطيعُ ألا أكتبَ في الحب!
إلى الغرباء، هذه المرَّة، وفي كل مرةٍ أكتبُ فيها، أرسلتُ رسائلَ خفيَّة وأخرى جليَّة، تُبيِّنُ كم صِرنا قريبِين، تنتفي عنا غُربةُ المكانِ والمعرفة.
إنَّ سَفري إليك يسير، ووصولَ كلمةٍ إلى القلب هو وصولُ جسدٍ به أرواحٌ وأرواح. وما أرجو لهذه الكلمات إلا ذلك!
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات
لطف الله بكم ورأف يا أستاذة أحلام!
أصابتني الكلمات في مقتل!
شكر الله لك يا حبيبي، ولطف بك ورأف!
اللهم آمين