هل يمكننا أن ننعم ببعض الهدوء؟ أو هل لنا أن نجرب الصمت يوماً
صوتُ أمواجِ البحرِ، وزقزقةُ العصافيرِ، هدوءٌ تامٌّ تريدُ أنْ تُدخِلَهُ إلى أذنَيكَ لتتشبَّعَ بِهِ، فأنتَ تعشقُ صوتَ الهدوءِ.
نعم، ذلكَ الصَّوتُ الذي لا يسمعُهُ الجميعُ، وبينما تسعى جاهداً لذلكَ، فإذا بصوتِ هاتفٍ يرِنُّ، أو شخصٍ يتحدَّثُ وكأنَّهُ قريبٌ منكَ لكنَّهُ هناكَ على بُعدِ عدّةِ أمتارٍ، تلتَفِتُ يمينَكَ فتجدُ ذلكَ الذي يلعبُ بهاتفٍ يتنقلُ من فيديو إلى آخرَ، تلتفتُ يسرةً فتجدُ مجموعةً يتحدَّثونَ بصوتٍ عالٍ وكأنَّ المكانَ ملكٌ لهُم، فيتحوَّلُ السُّكونُ إلى صَخَبٍ.
يتكرَّرُ هذا السّيناريو معنَا بشكلٍ يوميٍّ وفي كلِّ مكانٍ، تتداخلُ الأصواتُ البشريَّةُ والتّكنولوجيّةُ، ويتَّخِذُ المُعظَمُ وضعيَّةَ أنَّهُ وحيدٌ هنا وكأنَّ كلَّ الجموعِ الموجودةَ هيَ رسمٌ منْ خيالٍ، فيتعاملُ كلُّ فردٍ براحةٍ كبيرةٍ وكأنَّهُ في بيتِهِ رَغمَ أنَّهُ في مكانٍ عامٍّ وعليهِ أنْ يحترمَ وجودَ الآخرينَ.
في إحدى المرَّاتِ طلبتُ من صديقتي أنْ تغلِقَ عينَيْهَا وتستمعَ إلى صوتِ البحرِ، لكنَّها عَجِزَتْ عن ذلكَ، قالتْ لي: "لا أقدِرُ". هيَ لا تعرفُ كيفَ تتأمَّلُ الهدوءَ أو تعيشُ السَّكنيةَ لبعضِ الوقتِ، لأنَّها جُبِلَتْ على الانشغالِ بكلِّ شيءٍ حولَهَا في الحياةِ ومتابعةِ مسؤوليَّاتِهِا، فهاتِفُهَا لا يكادُ يبرحُ من أصابِعِهَا إلَّا قليلاً. هذهِ الفوضى التي خلقَتْهَا هيَ في حياتِهَا جعَلَتْهَا لا تعرفُ كيفَ تهدأُ وتتأمَّلُ ولو لبعضِ الوقتِ. وهذا الوضعُ ينطبِقُ على الكثيرينَ، فتجدُ بعضَ الأماكنِ جميلةً بطبيعَتِهَا، إلَّا أنَّ صَخَبَ البشرِ يشوِّهُ المنظرَ.
لا أدري لماذا لم نَعْتَدْ على السّكونِ والهدوءِ، ربَّما انتهى ذلكَ في زمنِ الأجدادِ الذي لم نعشْ بهِ، ربَّما لأنَّنا دولٌ حارةٌ لا نحظى بجوٍّ جميلٍ تَهُبُّ نسماتُهُ المُنعشةُ إلَّا قليلاً، هل السَّببُ نحنُ أم التكنولوجيا التي اقتحمتْ كلَّ ثواني يومِنَا وكأنَّنا في سباقٍ نريدُ أنْ نصلَ إلى خطِّ نهايةٍ لا نعلمُ أينَ هوَ؟
جميعُنَا كبشرٍ نحتاجُ للحظاتٍ منَ السُّكونِ والهدوءِ، نحتاجُ لوقتِ خَلْوَةٍ نجلسُ فيهِ معَ أنفسِنَا دونَ أنْ نتحدَّثَ معَ أحدٍ، ننقطِعُ عن كلِّ شيءٍ ونختلي بنفسِنَا التي غِبْنَا عنهَا طويلاً، نراجعُ بعضَ الأمورِ والعلاقاتِ والقراراتِ، أو نجلُسُ هكذا دونَ شيءٍ، فقطْ نريدُ أنْ نصفّيَ ذهنَنَا منَ الضَّوضاءِ التي بداخِلِهِ نتيجةَ زحمةِ الحياةِ والمسؤوليَّاتِ والمَهامِ، لنعودَ من جديدٍ بروحِنَا الجميلةِ نقبلُ على أيَّامِنَا بحبٍّ وسعادةٍ.
لحظاتُ الهدوءِ بالنِّسبةِ لي ثمينةٌ جداً، لأنَّها نادرةُ الوجودِ، فحتَّى إنْ كنتَ أنتَ هادئاً ستجدُ مَن يقتحمُ ذلكَ إمَّا بحديثٍ أو هاتفٍ أو أيِّ إزعاجٍ آخرَ يمارِسُهُ، وكأنَّ هذا الشَّخصَ يعيشُ في العالمِ لوحدِهِ، ولا يأبَهُ لمن معَهُ. ولكنْ ولأنَّ حريَّتي هيَ أن لا أتعدَّى على حريَّةِ الآخرينَ، لا بدَّ عليَّ مِن احترامِ الأماكنِ العامَّةِ، فحينَ كنَّا صغاراً علَّمَنَا آباؤُنَا وأمَّهاتُنَا أنْ لا نرفعَ أصواتَنَا في الخارجِ، وهذا ما نحتاجُهُ نحنُ الآنَ، فالمكانُ العامُّ حقٌّ للجميعِ أنْ يستمتِعَ بِهِ، فكيفَ بكَ تتناولُ طعامكَ في مطعمٍ وتتحدَّثُ بصوتٍ عالٍ لتَسْمَعَ الطاولةُ التي بقربِكَ كلَّ قصَّتِكَ؟ ولماذا تذهبُ إلى الحديقةِ لتستنشِقَ الهواءَ النَّقيَّ في حينِ أنَّكَ تقلِبُ جهازَكَ من برنامجٍ إلى آخرَ دونَ أن تضعَ سمَّاعةً أو تطفئَ الصَّوتَ حتَّى لا تزعِجَ الآخرينَ؟
الهدوءُ والسُّكونُ إنْ عرفنا كيفَ نعيشُهُم وكيفَ نختلِسُ تلكَ اللحظاتِ ونحترمُ الآخرينَ في الخارجِ دونَ أنْ نكونَ مصدرَ إزعاجٍ للعالمِ، فسنرى أثرَ ذلكَ على حياتِنَا ونفسِنَا ولحظاتِ يومِنَا.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات