يظل زمن الأبيض والأسود الأقرب لقلبي، بشاشته الرمادية، بأنغامه التي يتخللها طشاش يزيدها طربا، بلغة الحب التي كانت دارجة فيه، لغة خجولة ومبهمة،




اليوم اشتريت تلفازا، أصغر تلفاز وجدته، ذاك أنه لن يقبع في ركن من صالون مزركش، وبالكاد قد أجد له زاوية في غرفتي الصغيرة


ورغم أن ما يوفره هاتف ذكي أفضل وأغنى مما قد أجده في هذه العلبة، فما أن ظهرت شاشة رمادية بطنينها المزعج حتى رقصت عيناي فرحا. كأني لازلت تلك الطفلة الصغيرة التي تراقب بكل تركيز نفس الشاشة الرمادية في انتظار أن ترى صورة وتسمع صوتا، وفي أفضل الأحوال أن تظهر الصورة بألوان تناسبها


كانت تلك لحظة الكمال في حياتي. لو ظل الكمال الان كما فهمته آنذاك ما تزحزحت من أمام شاشتي الصغيرة


ثم ان هذه العلبة الغبية كان يخيل لي أنها ذكية وتستهبل، أحيانا تأبى الا أن تبقى واقفا ممسكا بأحد أسلاكها وفي أكثر الوضعيات تعبا لتشتغل


أذكر أني كنت مغرمة بأفلام الأبيض والأسود، ولم آبه حتى بالكرتون مثلها. وهذا لسببين، أولا لأن ألوان التلفاز انسحبت منه دون رجعة، وهذه الأفلام هي أفضل ما يمكن أن تشاهده دون أن يفوتك شيء، على عكس الأفلام الهندية التي تضج بكم هائل من الألوان لم يكن تلفازنا ليتحمله


ثم إني كنت أجد في هذا الفن سحرا، لست أدري إن كان سحر القدم، أم سحر زمن وددت لو غيرت تاريخ ميلادي لأعيشه. ربما كنت سألبس فساتين الأميرات تلك، وأمنح شعري قصة قصيرة غريبة، وأتزوج رجلا يشبه رشدي أباظة، وأصبح هانم من الهوانم، أحيي السهرات، وأرقص على أنغام مستوردة


لكن على حظي الذي يجعلني أقف كل دقيقة لأعدل سلك التلفاز. حتى لو عدت بالزمن، ما كنت سأكون الا بدرية ابنة البلدة، ولي ضفائر أطول مني، لا يتخللها غير المشط، ثم تلف وتخبأ تحت المنديل، وأتزوج رجلا كرشه لا يملأها حتى التراب. بدرية لا تدري عن سحر زمانها شيئا غير أنه قلة حياء، وكرش زوجها التي تمتد قبله معلنة قدومه هي سر سعادتها، وهي دليل على نجاح مهمتها الأبدية في إطعامه


لكن من يدري أيهما أسعد، فالسعادة لا تتعدى ما تراه العين وترضى به، وما تراه وتستغني عنه. السعادة في الخط الفاصل بين الرضا والتطلع. وليس لأي شخص أن يضع ذلك الخط، فكل يرسم منحاه على هواه


فكرة أني ربما كان يجب أن أكون هناك، بين ذاك الأبيض والأسود، طبعا بشرط أن أكون هانم من الهوانم، طاردت أحلامي مدة طويلة. لكني كبرت وفهمت أن هذه العلبة تظهر أفضل ما كان عليه زمن الأبيض والأسود، وأن معدن الإنسان وعبث الحياة لا يتغير بتغير الزمان. لكل عصر حلوه ومره، وربما أجمل ما فيه أعيشه أمام شاشتي الصغيرة كما نعيش عصورا بعيدة وقريبة من قصص قصت وكتب كتبت وألحان تحمل ثقافات مضت. ما يصلنا هو عصارة ما يعاش، ليس ما يعاش حقا، نبذة قد تكون الأجمل أو الأسوأ


الفن على قدر ما هو من أجمل أساليب التأريخ، فهو أسوئها في نقل الحقيقة البحتة. فالفن ليس كتاب دين، ولو كان للفن طريق مستقيم لا شوائب ولا زلات فيه، ما تطور ليصل حتى شاشتي الصغيرة


لكن يظل زمن الأبيض والأسود الأقرب لقلبي، بشاشته الرمادية، بأنغامه التي يتخللها طشاش يزيدها طربا، بلغة الحب التي كانت دارجة فيه، لغة خجولة ومبهمة، ولباسه الذي يخفي أكثر مما يبرز. إن كنت سأنعته بصفة، سأكتفي بأنه زمن غير واضح، لا شيء فيه يصل للكمال، ولا أحد يبحث عن الكمال. وكل تفاصيله الصغيرة الغير كاملة جميلة


هذا لا يعني أبدا أن هناك عصرا جميلا وعصرا لا يصلح للتأريخ، بل لكل شخص عصره. وربما أخي الصغير قد يجد في نغمة سامسونغ ما أجده أنا في الأبيض والأسود


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات مدونة فاطمة

تدوينات ذات صلة