الرواية والفيلم : أن تعرف الحقيقة من صنّاع الخيال ...
كان يا مكان قديما وحديثا وفي كل زمان، فكرة انبثقت في رأس أحدهم، احتفظ بها في الداخل، وأصبح رأسه أثقل من ذي قبل، قلبه أثقل من ذي قبل. ظل ينام بها ويستيقظ، تتغذى الفكرة على مشاعره، على بقية أفكاره، على شروده، حتى كبرت وتمددت ولم يعد عقل داخل جمجمة يسعها، فقرر أن يكتبها صاحبها على الورق، ورقة، اثنان ثلاثة... ثلاث مئة! أهلا أهلا هذه الفكرة ذات الثلاث مئة ورقة سندعوها حكاية ( قد تكون تسميتنا هنا علميا خاطئة، لكننا لا نتحدث بالمنطق هنا دائما، أو غالبا لا نفعل)
الآن لم تعد الفكرة داخل رأس صاحبها، أنتقلت لأياد أخرى ، لأعين أخرى، لأسمعة أخرى، وأحيانا لألسنة ولغات أخرى، حتى أن معالمها تغيرت داخل رأس ومخيلة كل فرد قرأها، لكن أحد أولئك الأفراد أراد أن يشارك الناس كيف نسجها في مخيلته، أحضر أشخاص كثر وضعهم أمام الكاميرا، قال لهم افعلوا ما تقول لكم هذه الحكاية ثم قال بعد ذلك.. أكشن!
الشخصية التي انبثقت في رأسها الفكرة أول مرة تدعى " باميلا ليندون ترافرز" ويمكنك أن تضع مكانها أي اسم آخر تحب.
أما الشخص الثاني الذي وضع هذه الفكرة أمام الكاميرا وقال أكشن هو " والت ديزني" ويمكنك أن تضع أيضا أي اسم آخر تحب.
أما فكرتنا نفسها، هذه الفكرة التي تحولت من مجرد فكرة انبثقت داخل رأس واحدة، حتى وصلت لقلوب كثيرة حول العالم تدعى " ماري بوبينز"، لا حاجة للتذكير أنك تستطيع وضع فكرة ذات اسم آخر تحبها.
إن سحر الأفلام والروايات ودهشتها يكمن في السلسلة المليئة بالإبداع الفردي والجماعي، في هذا الكم من التلاعب بالواقع عن طريق الكلمات والحبكة والمخيلة، ثم تجسيد الثلاث السابقة ليتم التلاعب بها بدورها، لكن التلاعب يكون في المرة الثانية عن طريق المؤثرات البصرية وعدسة الكاميرا، ثم مشاركتنا هذا السحر من خلال شاشات السينما حتى ننسى لوهلة أنه خيال . وفي الحقيقة لولا الواقع لما وجد الخيال، ولولا الخيال لما استمر الواقع.
إنها فضيلة أن يحاول أحد جاهدا أن ينسج حكاية أو يصنع فيلما، ويلقيه علينا كمثابة طوق نجاة وفُسحة قليلة لخارج الواقع أو حتى لداخله تماما. إنها فضيلة أن تقول ماذا حدث وماذا يحدث، ورغم أنه في هذين المجالين وكسائر المجالات ليس شرطا دائما أن تُقال الحقيقة، وذلك لأسباب عدة، كمدى أخلاقية ومصداقية من يقولها، أو لأسباب قد تفوق قدرة صاحب الحكاية، في هذا العالم المليء بالعوائق، إلا أن ذلك كله لا يمنع أنها فضيلة وهبة لا تُمنح لأي شخص.
نحن ممتنون لأجاثا كريستي وجين أوستن ونجيب محفوظ وجورج أورويل وكافكا وهاروكي موراكامي وكل الذين شاركونا حكاياتهم التي بدأت صغيرة في رأسهم لكنها وسعتنا جميعا داخلها.
وممتنون كذلك لوالت ديزني و الأخوة وارنر وويليام وفوكس ونيتفلكس ويونيفرسال وكل من شارك أو كان جزء في صناعة فيلم حطم شباك التذاكر أو حتى لم ينل إلا على إعجاب شخص واحد فقط. نحن ممتنون لمجهود صنع المتعة الذي يبذلونه.
لقد أنقذتنا مخيلة أشخاص ما أكثر مما فعل واقع شخصنا نحن أحيانا كثيرة.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات