لأن الكتابة فعل تحريضي على الخيرية والمنافحة عن لون الإنسان نبقى قابضين على جمر الكلمة، وشرف الحرف، أليست الحياة مغامرة لا تنتهي
لعل من نافلة القول لدى ذوي المعرفة والرجحان أن الهوية قديمة قدم التاريخ الإنساني لكنها لم تظهر في صورة النظرية والفلسفية إلا في العصر المتأخر ولاسيما في القرن الثامن عشر والتاسع عشر وازدادت الدراسات والمؤتمرات حول ماهيّة الهوية. فالهوية مفهوم غامض ومتحرك، يشتبك فيه التجريد النظري بالممارسة التاريخية وهو مفهوم مُلتَبس مع قطاعات عديدة، ويعاني مفهوم الهوية المعاصر من وطأة حياته في سياق اجتماعي وثقافي لأفراد يسعون تحت مظلة القيم الحاكمة لعالمنا الحديث إلى تحقيق خصوصياتهم الفردية بقوة. تتشكل الهوية إذاً من جملة ثوابت مشتركة تعارف القوم عليها، ومنها التاريخ والمصير الواحد والموروث الثقافي والدين والتقاليد والعادات وصولاً إلى اللغة التي نسميها اللغة الأم وتتقاربُ الأرحامُ على أساسٍ منها. هذه اللغة تلاحِمُ سدى همنا الإنساني فتربطنا بذواتنا وتصلنا بالآخرين؛ ولكنها لا تحجب أبداً عن أعيننا وعقولنا وجوب وعي الحقائق ورصد المتغيرات ونقل التجارب الإنسانية كما هي عليه، ومن ثمّ لزوم الاعتراف بوجود الآخر المختلف عنا لغة وفكراً وثقافة وديناً، فالاعتراف بالآخر لا يعني بالضرورة التماهي بقيمه ولغته وأفكاره ظنّاً منا أنها الأفضل والأسلم والأحدث.فاللغة تشكل ذواتنا وتستعلن الآخر في ذهننا المختزل، وهي الخزين لمنجزات الحضارة، فتعد الشاهد الأمين على تاريخ الأمة ومسار تطورها وعنوان وحدتها ورمز هويتها. وليست اللغة مفردات لفظية حسب؛ وإنما هي واحدة من المؤسسات العظيمة داخل أي أمة لأنها وسيلة التفكير ومستودع تراث القيم الاجتماعية، والعادات الذهنية، واللغة الحية هي القادرة على أن تستخدم في العلوم والفنون والفلسفة بمعنى أنه في العلم يمكن التمييز بين معانيها وفي الفلسفة يمكننا أن نعبر بها بوجهة فلسفية ونضع الكثير من الكلمات الجديدة أو نكسب القديم منها معاني جديدة.وكما أنها تعد من أهم الأركان التي تعتمد عليها الحضارات، ومن أهم العوامل التي تسهم في تشكيل هوية الأمة، وكلما كانت اللغة أكثر اتصالاً بثقافة الشعوب كانت أقدر على تشكيل هوية الأمة وحملها. ولا غرو أن تعد رأس مال رمزي ووعاء يحتضن قيم الأمة ويساعد على تكوين تصور للذات بدلاً من تفرقنا في ذوات متباينة. وليس أصعب على النفس من قطع الحبل السري الذي يربط اللغة بالذات الفردية والجمعية، حينها ينفرط عقد التلاحم، وينفتل رباط قد أبرمته التجارب واقتضته الحاجات. وقد استقر في علوم التربية أن الطفل لا يتحوّل إلى ذات كاملة إلا بامتلاكه اللغة. لقد بات من الصعب اختزال المسائل الكونية الكبرى في معطى واحد، كما أن هذه الموضوعات تشتجر بحقول متعددة الأصول والمنجزات المعرفية المختلفة. وأياً كانت الثقافة تملك من قدرة على المقاومة والصمود أمام تيارات الانفتاح والاقتراض والتأثير فإنها لا بد واقعة في قوانين الأثر المتبادل بين نظيراتها من الثقافات الأخرى، وقد تتباين قدرة الثقافة في الحفاظ على ذاتها ومعالمها من الانصهار والامِّحاء، أو الاستعباد والإقصاء واستنبات آليات اشتغال في تربتها من ثقافة الآخر. وفي معترك هذا التلاحم بين المفاهيم والقضايا التي تشغل الإنسان والثقافات تبرز مسألة إشكالية ماثلة في تلازم اللغة والهوية في زمن أبرز معالمه التغير والصيرورة، إذ أضحت العولمة خطراً محدقاً بالثقافات والخصوصيات القومية، إذ تميل العولمة إلى صهر هذا التنوع الثقافي في بوتقة الثقافة الأحادية والقطبية المفردة التي تشبه أن تكون معادلاً موضوعياً للأمركة، من ثَم تكمن جدوى القول عن اللغة والهوية في راهن الهويات القاتلة وموت اللغات القومية أو ضمورها. ونروم في هذه المقاربة استجلاء مسألة اللغة العربية والهوية القومية بعيدأً عن الطهرانية والتمجيد، وتأثيم كل وافد من الآخر. إذ إن الخوض في اللغة والهوية وفق ذلك المعطى لن يضيف جديداً، ولن يسهم في النظر إلى المسألة نظرة موضوعية جادة. لقد استقر في الوعي أن اللسان دعامة أساسية للثقافة، فلا تقوم الثقافة أياًّ كانت أشكالها وتعبيراتها، من دون وعاء لغوي يحتضنها ويتبناها، ويتيح السبل أمام أبنائها للتعبير والإبداع في مختلف مجالاتها. واللغة أيضاً مَعْلَمٌ أساسي من معالم انتمائنا إلى مُتَّحد لغوي اجتماعي. وَتَسَاوُقُ هذه الأقانيم يسهم بالضرورة في تعيين أفق الهوية الواحدة، وفي إنضاج ملامحها فردية كانت أم جماعية، وطنية، أو إثنية. والهوية تُسْتَنْهَضُ عادةً لدى شعور الجماعات والأفراد بتنافس حاد أو بخطر محدق أو داهم من لدن الهويات الأخرى، شقيقةً كانت أم صديقةً أم معادية. الأمر الذي يُلْزِمُهَا بضرورة التقارب والتضامن للتأكيد على الثوابت المشتركة والدفاع عنها. فاللغة هي القاعدة العامة لكل إنتاج ثقافي، وفي حال تدهور ثقافة ما أو تراجعها تتراجع قدرة اللغة على التعبير والانسجام وتتدهور عملية الإنتاج الثقافي والمعرفي، فتدخل معانٍ ومفاهيم ومصطلحات جديدة من لغة أخرى لكنها لا تحقق ذاتية اللغة ولا تعبر عنها. وهذا ما نلحظه اليوم حيث تفد المفردات والمفاهيم والمصطلحات الأجنبية بكثرة في اللغة وتفقدها مرونتها وسلاستها. إذ إنَّ اللغة قنطرة الإنسان إلى الحضارة، سجَّل بها تطوره وفكره وتجربته ومشاعره وعواطفه، وهي الأداة التي تحاور بها وتشارك وتبادل وأعطى وأخذ، فالبشر لا يتعلمون عن طريق الخبرة المباشرة والملاحظة والمحاكاة حسب، وإنما يتعلمون كذلك بوساطة الخبرة التي تتراكم في صورة علامات لغوية في الأغلب. وتعريف الإنسان بأنه "حيوان ناطق" معناه في الحقيقة أن الإنسان كينونة لغوية، وأن اللغة هي التي أنسنت هذا الكائن، فلم يوجد الإنسان _ كا صدح رولان بارت_ قبل اللغة لا نسلياً ولا تطورياً، فنحن لن نصل أبدا إلى حالة يكون الإنسان منفصلا عن اللغة... فاللغة هي التي تعلّم تعريف الإنسان وليس العكس. فاللغة هي "مسكن الوجود" كما يقول هيدجر، وهي مجال الإفصاح والإبانة عن أوجه الكائن والمكان الذي ينبني فيه الفكر. والقول أن اللغة مسكن الوجود ينبغي أن لا يفهم منه أن اللغة هي مجرد صورة عن الواقع أو أداة لنقل المعنى. لغتنا هي أخص ما في كينونتنا، فيها نتعرف إلى ذواتنا ونتمايز من غيرنا، وبها تتشكل ذاكرتنا، وإليها نهرب من أمكنتنا، ومن خلالها تتجلى طريقة تفكيرنا ونمط معقوليتنا، باختصار بواسطتها انبجس أهم وأخطر الأحداث التي صنعت حياتنا ووسمت تاريخنا [1]. ونختم بقول الكاتب الداغستاني رسول حمزاتوف في رائعته( بلادي داغستان): ليقل الآخرون إن لغة شعبنا فقيرة، أما أنا فأستطيع أن أقول بلغتي كل ما أريده. ولست في حاجة إلى لغة أخرى كي أعبر عن أفكاري ومشاعري..
[1] . ينظر علي حرب، التأويل والحقيقة. قراءات تأويلية في الثقافة العربية، ص 24-25
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات
ما أجمل ما كُتِب! ✨