التراث الحي من يمنح أتباعه فرصة النظر في تفاصيله، فيبقي ما يجده صالحًا، ويقول كلمته بموضوعية في الفروع اليابسة التي لا نحتاج إليها؛ ليقوى ويشتد عوده

انعقدت منذ سنين ألفة ووصال بيني وبين (كتاب) سيبويه ، فكلما استقريت صفحاته ونقرت في مسائله ازددت يقينا بهذا الإرث الموار الذي أسداه إلينا السابقون .ففي (الكتاب) فكر وقّاد ،ومتانة في البحث تشي بعبقرية فذّة لدى سيبويه، شهد له العلماء على مدى العصور " بأنه من أراد أن يؤلف كتابا في النحو بعد " الكتاب" فليستحي!ولكن مع تقديري لهذا الجهد الرائع، إلا أنه كان يستوقفني أمر يتعلق بالأمثلة المسوقة في ثنيّات الكتاب، ولا سيما المتعلقة بالمرأة – فهي أمثلة في كثير منها تقلِّل من قدْر المرأة وتهبط بإنسانيتها نحو مهاوي التخلُّف.فهو يساوي بينها وبين الموات والهوام، والسائمة، والمرأة بالضرورة أن تضرب، وأن تأتي في ذيل الحديث، وتشبه بالشاة والبقر، نحو قوله: " خل الظباء على البقر" كناية عن النساء، أما الأمثلة التي يرد ذكر المرأة في أعطافها فهي كثيرة، أذكر بعضها تمثيلا لا حصرا: يذكر سيبويه: مررت برجل معه امرأة ضاربها هو، وتقول: مررت برجل معه امرأة ضاربها أبوه، إذا جعلت الأب مثل زيد" ، فالمرأة لم يضربها زيد حسب بل أبوه أيضا!!وما ضرَّ سيبويه لو أتى بمثال : مررت برجل معها امرأة مكرمها، ومررت برجل معه امرأة موقّرها أبوه؟ولكن يبدو أن سيبويه كان جزءًا من مؤسسة إعلامية، الرجل فيها سيّد الموقف، فالقويّ دوما يكتب التاريخ ، ويصوغ مفرداته وفق رؤاه هو، ومن مسباره الذاتي للأشياء.ولكن ما يملأ الأجواف حنظلا أن تجد قوافل الدارسين يُحيون هذه الأمثلة، وينفخون فيها نسغ البقاء عبر ترديدهم إياها وتلقينها مريديهم بدلا من وأدها والاستعاضة عنها بأمثلة تتسق وكرامة الإنسان/ المرأة.ولا مشاحة في هذا الصنيع، لأن الأمثلة من المتغيرات وليست أصولا.لقد فعلت وزارة التربية والتعليم خيرا عندما حذفت من مناهجها الأمثلة التي تكرِّس السلوك الخاطىء كالضرب والقتل والسرقة، فما عدنا نقرأ الأمثلة المستهلكة، ضرب عمرو زيدا، وسرق الطفل التفاحة من الحقل.إننا بحاجة إلى أن نقرأ تراثنا قراءة واعية، فننتخب منه الأطايب الوارفة التي من شأنها أن ترتقي بثقافتنا في معارج البهاء. ونواري في التراب ذلك الركام_ الذي هو من الفروع لا الأصول_ إن كان يعيدنا القهقرى وينفث فينا الطفولة البدائية.


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

بمنأى عن إلماعاتك الظريفة
لماذا تُذكر المرأة عندهم في تقعيداتهم وهي لا إعراب لها في الغالب الأعمّ؟
ولماذا يُجتلب ذكرها في أصقاعِ التُهم و الجزع والكدر، حتى تجتمع في جلسات الشيطان الخنّس؟

إقرأ المزيد من تدوينات دكتور عيسى برهومة

تدوينات ذات صلة